ماذا تعني هذه الحقائق، والعالم يدخل عاما جديدا من حياته؟ لقد سعى المفكرون والفلاسفة لطرح تعريفات وأسس لما يمكن اعتباره نظاما سياسيا يؤكد وجود «الدولة» فثمة تباينات غير قليلة في ما بينهم، خصوصا بعد ان اتضح صعوبة تحقيق ما جاء في «جمهورية افلاطون» من سمات للنظام السياسي الأمثل. كان ارسطو اكثر اهتماما بالمجتمعات السياسية والمدن، ولم يعن بنقاش الدولة، معتبرا ان المدينة التي تجمع البشر لا تقوم على اساس منع الظلم او تحقيق الاستقرار الاقتصادي، ولكن للعيش حياة جيدة: «إن الشراكة السياسية يجب أن يعتبر على أنها من أجل الأعمال النبيلة، وليس من اجل العيش معا» بينما افترض افلاطون ان تكون الدولة في «المدينة الفاضلة» مسؤولة عن امرين متلازمين: ان الحكومة ينبغي ان تقوم على اساس المعرفة الصحيحة، وان المجتمع يقوم بتبادل اشباع الحاجات بين أفراد يكمَلون بعضهم من ناحية المواهب والكفاءات. أفلاطون الذي طرح دولته المثالية انتقد الوضع الديمقراطي الذي كان معمولا به في أثينا بسبب جهل رجال السياسة وعدم كفاءتهم. وانتقد الصراع الحزبي وما تميز به من أنانية تؤدي الى إعلاء مصلحة فئة من الفئات على مصلحة الدولة نفسها. ولذلك تضعف الدولة تدريجيا في مقابل صعود مصالح الفئات الحاكمة، سواء الحزبية ام القبلية، وهذه واحدة من آفات الدولة العربية الحديثة. في مثل هذه الظروف تتحول الدولة الى اداة بيد الحاكم، بدلا ان يكون موظفا لديها، يديرها وفق مبادئها وقيمها وشروطها. وعندما تصبح الدولة اداة لخدمة اغراض الحاكم واهدافه، يتعمق الاضطراب السياسي ضد الحاكم الذي لا يجد امامه سوى الامعان في استغلال الدولة وامكاناتها للدفاع عنه وعن سياساته ومصالح المرتبطين به. هذا الصراع بين مصالح الدولة والحاكم ومن معه من اشخاص او فئات، يؤدي تدريجيا الى التوتر السياسي والامني، وقد يصل الى حد التمرد الذي قد يؤدي الى سقوط الدولة او تقسيم البلاد. والسؤال هنا: هل اصبحت الدولة عبئا على المجتمع الانساني؟ أوليس المطلوب ان تكون هذه الدولة اداة لتسهيل حياة الناس ولم شملهم؟ وبالتالي فهل استنفدت الدولة اغراضها واصبح وجودها سببا لمشاكل جديدة؟ يصعب القول بان الوقت قد حان للتخلص من الدولة، ولكن مطلوب اعادة النظر بمعوقات بناء الدولة الحديثة في مجتمعاتنا التي تقوم العلاقات فيها على الولاءات سواء للدين ام الطائفة ام القبيلة ام الحزب. المطلوب تفكيك هذه الولاءات بشكل منهجي وعلمي، وهذا مشروع كبير لا يمكن تنفيذه بسهولة، نظرا لطبيعة مجتمعاتنا وعمق العادات والتقاليد الموروثة. وبرغم عمق الولاء الديني والالتزام، فما تزال الدولة في دول العالم العربي أكثر التصاقا بالموروثات الثقافية الخاصة، وبالتالي يصعب تحديد مدى «عصريتها» وتنعكس هذه الحقائق على طبيعة التوجهات الانتخابية التي تمارس في بعض البلدان العربية تحت غطاء الديمقراطية، حيث تغلب تلك الولاءات على ما سواها. وليس معلوما ما اذا كان بالامكان اقامة دولة مؤسسة على القانون الذي يتجاوز الانتماءات الطائفية والقومية والاثنية، كما ليس معلوما مدى قدرة المجموعات المعارضة على صياغة انظمة حكم بعيدة عن تلك الاعتبارات. ومع ان من الصعب الجزم بان التيارات الدينية تستطيع تجاوز تلك الحسابات فيما لو سنحت لها فرصة انشاء الدولة، فان بعض المؤشرات المتوفرة يرجح القول بقدرة الاسلاميين، اذا اتيحت لهم فرصة الشراكة السياسية بحرية، على تجاوز تلك المعوقات. في تركيا وايران، بغض النظر عن الاتفاق مع تجربتيهما في بناء الدولة وتوجهاتها الآيديولوجية، ثمة نتائج تشير الى نجاح التجربتين نسبيا في تجاوز المعوقات القائمة في المجتمعات العربية، وان ذلك يؤثر ايجابا في النواحي الاخرى خصوصا المجالات العلمية والتكنولوجية. هذا يعني ان لدى الشعوب القدرة على ممارسة شراكة سياسية حقيقية اذا اتيحت لها الفرصة، وان تلك الشراكة كفيلة ببناء الدولة الحديثة بشروط ثلاثة: اولها توفر فرصة الشراكة الحقيقية وليس المشوهة بالابعاد الامنية وسياسات الاقصاء، ثانيها: عدم تدخل الدول الخارجية في ادارة العملية السياسية بدعم طرف ضد آخر، او بدعم الاستبداد واعتبار ممثليه بوابة الحفاظ على مصالح تلك الدول، ثالثها: استقلال البلدان بشكل حقيقي وتنوع اقتصاداتها وعدم السماح لاي من نخبها (كما كان الحال مع جنرالات الجيش التركي) بالتأثير على المسيرة السياسية وآيديولوجيتها وآلياتها. تركيا وايران (وحتى لبنان برغم مشاكله) مهددة بالتقسيم، كما يحصل في السودان، ولكن هذه الدول وجهت مسيرتها السياسية بعيدا عن التخندقات الفئوية والعرقية والقبلية، وسمحت بشراكة سياسية معقولة، بعيدا عن املاءات الخارج او سياسات الاستئصال والاقصاء او التمييز. التقسيم خطر محدق بالدول المكونة من عرقيات واديان ومذاهب مختلفة، ولكن حسن ادارة الداخل تقطع الطريق على تدخل الخارج، وتسمح بقيام الدولة القادرة على العمل وفق القانون وادارة ملفات شعوبها وفق رغباتهم وبشراكة مباشرة منهم، ومن اجل مصلحتهم وعلى طريق نمائهم. ربما لا تتاح للسودان فرصة لاعادة لملمة شمله بعد الاستفتاء الاخير على انفصال الجنوب، ولكن بقية البلدان مطالبة باعادة قراءة ملفاتها الداخلية لوقف نزعات التشطير والتقسيم والتمييز على اسس الدين والمذهب والعرق والدم ٭كاتب وصحافي بحريني يقيم في لندن