في أيام الطفولة قبل أن نسلك دروب المدرسة، كنا ننقب بين بيوت أم عسل نجمع نوى التمر ندسه في جيوبنا كأنه مال نعدده ونتباهى في اقتنائه، حتى اذا كثر حفرنا له خزانات قرب بيوتنا ننبشها عند اللزوم ان دعا الداعي لذلك. في عيدي الفطر والاضحى كان اهل أم عسل يأتون بكميات كبير من التمر، ويطوف الاطفال على بيوت القرية بيتاً بيتاً، وتبذل النساء صحافاً مملوءة بالتمر والفول يتخاطفه الاطفال، ويتركون الصحاف خاوية برسومها المنقوشة في متنها وحواشيها، حتى اذا امتلأت جيوبهم وأخذ الرجال يصلون صلاة العيد، انصرف الاطفال إلى الطلاب بالزوج والفرد.. تعلمنا من عمى حسن كيف نصنع من مكسور الصحون المشجرة دوائر مغلقة في حجم العملة المعدنية، كان يهذب أطرافها بمهارة حتى تستدير ثم يزيل حراشفها بحجر الرحى حتى تغدو ملساء لها ظهر وبطن، ظهرها هو لون الصحن غالباً ما يكون أزرق اللون أو في لون الورد، كنا نصنع اربع دوائر متساوية نلعب بها (الظهر) ان جاءت كل بلون الظهر نقول اربش، وان جاءت على لون البطن نقول أبيض، وان تقاسمتا الألوان نقول دكان.. كل هذه الأوصاف صاحبها يربح، لكن إذا اختلف ظهر واحدة او بطنها عن البقية يخسر الواحد الرهان. اذكر وقد نهانا ناظر المدرسة عن لعب الظهر، وهددنا بالضرب، وكلف بعضنا بمراقبة بعض، لكننا كنا نتستر على بعض.. وذات مرة ضبط حميد الصافي والظهر يكشكش في جيبه، ولما سأله أنكر حميد ذلك وكان يجيد التكتم، وكلما هز الناظر الظهر في كفه ورماه انكرنا معرفتنا به، حتى كاد يصدقنا، لكنه خرج للصف الاول وجاء بحسان الكحيان، فهز الناظر الظهر ورماه بلونه الازرق الغامق وسأل حسان فقال بعفوية: اربش يا فندي ولم يحتج إلى تهديد أو وعيد فاعترف بنا جميعاً لننال علقة لا ننساها. وبقدر ما حذرنا أهلونا من عمي حسن الصايع، نجد خطانا تقودنا نحو بيته، وكل فنون اللعب تعلمناها على يديه، لكنه هذه المرة جاء بأمر جديد مجموعات من الورق المصقول ظهرها يحمل زخارف بديعة وبطنها يحوى على رسوم ملونة لفتاة وشاب وكهل في خريف العمر، وبقية الورق تحمل أرقاماً من الواحد إلى العشرة، وتنحصر ألوان ورق اللعب في اللونين الاحمر والاسود لا تزيد عليهما في اربعة اشكال، فأخذ الاحمر شكل العين والقلب، واكتفى الاسود بشكل ثمرة الباذنجان وثمرة الكركري،وكل لون يحوى ثلاثة عشرة كرتاً عدا الجوكر بشكله المضحك واستعداده لان يسد مكان أي كرت آخر.. كنا نأتي لعمي حسن خفية ليعلمنا العاب الورق التي كان بارعاً فيها، فتلقفناها بذهن صافٍ كأنما أعانتنا عليها جماعة من الشياطين لنتقنها ونتفنن في تطبيقها، فقد استغنينا بها عن ألعابنا التقليدية، وصرنا من المغامرين فيها، وتطور لعبنا من التسلية وتزجية وقت الفراغ الى اللعب بما نملك من نوى التمر الى التمر الذي نجمعه ايام الاعياد، ولما صرنا نعمل في البذر والحصاد مقابل أجر زهيد، كنا لا نتورع عن ان نختلف به الى اماكن اللعب التي برع الابالسة الذين يكبروننا في جرنا إليها، بمغريات تتفاوت، حيث حسنوها لنا، وبدأنا بالبسكويت نشتريه من الدكان ونقامر به حتى تستقر أجرتنا في جيب واحد أو اثنين، وتتمزق احشاؤنا من فرط مالنا الذي ذهب، وقد أرهقنا فيه اجسادنا يوماً او بعض يوم. وذات يوم من ايام الخريف جاء حسن التاجر بأكداس من الكرتلة، وكنا نراها في اوقات متباعدة يحوم بها نفر يحملون ديكا او صندوقاً من الحلوى يهتفون الكرتلة مضمونة ومبرشمة، وهذه عبارة عرفنا فيما بعد انها مكتوبة عليها، وقد كانت تلك الكرتلات من النوع الكبير من ذات المائة أو ذات الخمسين، لكن حسن التاجر أتى بكرتلات من ذات الثلاثين، كنا نتقاسمها ثلاثة صفوف بثلاثة أنفار كل واحد يختار صفاً بتصاويره ويحلم بالفوز، ويمضي الوقت نكسب ونخسر، وحسن التاجر يرمي في درجه ثمن الكرتلة وتتناقص نقودنا، ويستمر العد التنازلي ونزهد في الاكل رغم الجوع الذي يهصر امعاءنا، لكن ألماً ممضاً يعتصر قلوبنا واكبادنا، فنعود محسورين لنعاود الكرة مرة أخرى يوماً بعد يوم. ثم تطور أمرنا الى اللعب بالمال الصريح في خلوات نختلف إليها في أوقات معينة فور اخذنا لاجرنا ممن استأجرونا، وتورطنا وذاع أمرنا حتى صار ليس هناك فرق بيننا والرجال الذين اتخذوا مواقع يجهرون فيها بلعبهم للميسر، ولما ضيق اهل الصلاح الخناق على اهل الميسر بعد دعوتهم بالتي هي أحسن، صاروا يهاجموهم في أوكارهم ليوسعوهم ضرباً ويأخذوا اموالهم. وفرَّ أهل الميسر الى موقع خارج القرية، فيسهرون هناك الليل إلا اقله، وربما امتد بهم حتى مطلع الشمس، وقد أبلغ اهل ام عسل العمدة بان لعب الميسر اصبح عادة يعاني منها أهل البلد، وقد جأرت النساء بالشكوى لتقصير ازواجهن وضيق صدورهن حين سؤالهن، وربما امتدت ايديهم بالضرب. كان ذاك وقت العصر حين تحلق الرجال في جماعات قرب المقابر، وتبعناهم وكونا حلقة، بدأنا بسيف الله القاطع وانتهى امرنا إلى عشرة طيبة، ولم نشعر إلا وجماعة من العسكر تطوقنا، وقد القت القبض على الرجال واوثقوهم، ثم اقتادونا الى مخفر ود الحداد وادخلونا في غرفة ضيقة واحكموا شبك بابها الحديدي، وتوعدونا بالضرب بالسوط «أبو لسانين» حتى نقوم اعوجاجنا، واصبحنا تتقاذفنا المخاوف حتى جاء عمي عثمان وناداني من بين أصحابي، فدفعت بعضهم لاظهر بمسك حديد السلك، ولما دنوت منه قال لي أبشر بالخير، العمدة سجمنا خشمه، أديناه ريال أب ريالين ما تخاف تمرق براءة. وبعد برهة جاء العمدة يصلح من ثوبه على منكبيه وناداني باسمي، فقلت نعم، قال أخرج أنت لست معهم، فخرجت خجلان خزيان اتحسس حزمة الورق التي في جيبي، والعن ذلك اليوم الذي تعلمت فيه لعب الورق. في اليوم التالي تناهى إلى أم عسل خبر رجال الميسر، فقد حكموا عليهم بالأعمال الشاقة شهراً كاملاً يكسرون الحجارة في جبل الأعور. جدير بالذكر ان عمي حسن كان من بينهم، وقد ارسل لحيته تلك الايام يحاكي المتصوفة، وكان اذا تردد على حلقات الذكر تعتريه حالة من الجذب، فيترجم ويخر مغشياً عليه ثم يرفس ويقول: سكك، لكك، سكنات، مكنات.. ولما حضر بين يدي العمدة وبخه بقوله: حتى أنت بذقنك هذه تلعب مع الأولاد؟ فقال عمي حسن: من له في الكون حالة لا يموت حتى ينالها، فغضب عليه العمدة، وقال له يحلحل جنزير مخك.