الصين اسم حفر في ذاكرة هذه الأمة منذ عهود سحيقة فالعلاقة بين البلدين قديمة قدم التاريخ، اذ ان المتأمل في مناخ الثقافة السودانية يجد الكثير من البراهين الساطعة على عراقتها وتغلغلها في الادب الشعبي، ولا يستعصي على باحث عن هذه الوشائج ان يصادفها حتى في اكثر العادات السودانية قدما (الجرتق) بكل مكوناته على (الصينية) والتي ما عرفها شعب في الأرض قبلهم حتى بلغت أرض النيل، فتحركت جمالاً ولطفاً فتحولت من محمل لمائدة الطعام الى مخمل (للعديل والزين) وما ادراك ما (صينية الجرتق والحرير). وتميز أهل السودان عن غيرهم من عامة المسلمين بإبداعهم اضخم منتوج في مدح المصطفى صلى الله عليه وسلم وكذلك بلغ اهل التصوف في بلادي درجة من طلب الكمال والجمال والحضرة النبوية أو رصعوا جلساتها بدرر المدح وبديع القريظ، وهم يصفون صحن الحرم الشريف وذلك البريق المادي والمعنوي الذي يرسله فيغمر جنباتهم فتحيلهم الممسكات الى ادراك ان هذه الصنعة المعمارية انما هي قطعا من (وارد الصين) ويتجلى ذلك في قول المادح: (شوقك شاويني يا طه يا الساكن أم صيني) بينما يأخذ مادح آخر بتلك القطع البديعة التي تصطف في صحن المسجد النبوي فانشد: (قوم بي يا زميل لي طيبه وديني بلد النبي المحبوب فيها الرخام صيني) وكذلك عرف اهلنا في البوادي والبنادر (حرير الصين) وقد كانت تنسج به وسائد الملوك والعمد: (ديار ناس آمنة حافيها النعيم والزين وفيها مراقد الباشا وحرير الصين) ومن هذا الباب اللطيف عرفت خيرات الصين طريقها الى السودانيين عبر الاسواق والاشواق: (قوم بي يا زميل للبعشقو وغاويني طالب قربو والشوق والحسار ماليني الخلاني مسلوب والغرام شاويني لمعة خدو زي لمعة كبابي الصيني) ولعل من ألطف أدبيات اهلنا في ديار الكبابيش بشمال كردفان تلك الاهزوجة الشعبية ذائعة الصيت (الليموني) التي زادها جمالاً على جمالها ذلك الربط البليغ الكيف والمزاج و(البراد الصيني): (يا والدة خليني الجراري راجيني برادك الصيني قريافه راميني) وبهذا لا يبلغ الكبابيش تمام الكيف الا اذا كان (الشاهي) وديعة لدى (البراد الصيني). ولأن للصين جمالا أخلق ما يكون بالذيوع والشيوع كان لابد ان يبلغ الاطفال عبر الاهازيج الشعبية القديمة التي يحفظها أهل السودان عن ظهر قلب: (يا طالع الشجرة جيب لي معاك بقرة البقرة حلابة تحلب تعشيني في كورة الصيني) هكذا هي الصين اذا مزروع هواها في أعماقنا شيبا وشبابا، وسيبقى هذا الحب اجيالا واجيالا، وستبقى سيرة أهل الصين العطرة حاضرة في وجدان اهل السودان الأوفياء وفاءً جعل هذه العلاقة ترتقي مراقي الأدب والغناء والكسب الحلال عبر الشراكة الوجدانية التي ما حال بينها المكان وبعد الشقة على مستوى الجغرافيا، فتجلت الصين بسحرها على ضفاف المقرن الجميل..