ليس من المستغرب ان ييمم رئيس وزراء مصر «الثورة» فى اول زيارة خارجية له الي الخرطوم، كما كان من الطبيعي قبلا ان يكون الرئيس السوداني اول من تستقبله القاهرة، وهي لازالت تكابد مخاض التحول بعد سقوط الرئيس السابق مبارك. ولكن تأتي زيارة الوفد المصري رفيع المستوى الي السودان هذه المرة ووادي النيل يعيش اجواء مختلفة ليس ذلك فحسب بل و المنطقة العربية التى طالما لعبت الدولتان على مسرحها ادوارا قيادية تشهد باكملها تحولات تاريخية. فالسودان يمضي فى مواجهة استحقاقات اتفاق السلام الشامل ، وينتظر بصبر = حلول اللحظة التى لن يعود فيها كما كان من قبل، كما يواجه تأثيرات المد الثوري الذي اكتسح الانظمة العربية وعبر الحدود والحواجز. ومصر ما بعد مبارك لازالت تدفع ثمن الحرية، وتتقاذفها امواج الثورة الغاضبة، وتبحث فى كيفية التعامل مع ارث النظام الشمولي السابق فى الداخل، وعلى صعيد المنطقة. ومصر ما بعد مبارك ايضا تتجاذبها قوى اقليمية ودولية ،تبحث عن موطئ قدم فى الفراغ السياسي الداخلي ، وتطمع فى الظفر باعادة توجيه بوصلتها الخارجية . ومصر ما بعد مبارك كذلك تواجه عزلة عربية ،لم تألفها من قبل ، فى ظل توجس حلفاء مبارك والداعم الاكبر لمشاريع التنمية فى مصر من مآلات ما يحدث على ارضها، ويشكل الغياب الخليجي عنوانا بارزا لا تخطئه عين ، ولا تغفله التقارير الاعلامية. قبيل مغادرته الي الخرطوم كان رئيس الوزراء المصري قد صرح لوكالة الانباء المصرية الرسمية، بأن زيارته للسودان على رأس وفد وزارى كبير تعد خطوة أولى نحو التوجه فى سياسة مصر تجاه القارة الأفريقية.وقال شرف ان الهدف الأساسى من الزيارة هو التشاور مع الأشقاء فى السودان حول أوجه التعاون خاصة أن هناك ملفات مهمة وكبيرة بين مصر والسودان، وبينهما وبين دول القارة الأفريقية، وأضاف شرف بأن هذه الزيارة ستعقبها زيارات للعديد من الدول الأفريقية، خاصة دول حوض النيل. وتعكس تصريحات الوزير المصري انفتاح بلاده شعبا وحكوما على السودان ، واستعداد مصر ما بعد الثورة لاخضاع اجندة التعاون بين البلدين مع الخرطوم للبحث والتشاور، بعكس ما كان يحدث . وهو الامر الذي ربما تعكسه تصريحات للناطق باسم الخارجية السودانية اعتبر فيها الزيارة بداية لتصحيح مسار العلاقات بين البلدين. كما اكد الجانب السوداني ان الزيارة تؤكد على عمق الروابط التاريخية والوشائج الشعبية بين البلدين، خاصة وانها الاولى للحكومة المصرية التى تشكلت عقب الثورة. ويرجح مراقبون ان ملف مياه النيل سيكون المحور الرئيسي لهذه الزيارة، وان الوفد المصري سيدفع باتجاه تأكيد السودان على موقفه الداعم لمصر، وكذا إحكام التنسيق مع الخرطوم لبدء التشاور والحوار ليس مع أثيوبيا فقط ، وانما مع بقية دول الحوض . ويرى الصحافي المصري سعد هجرس ان ملف مياه النيل اخذ ابعادا مقلقة فى القاهرة بعد توقيع بورندي على الاتفاق الاطاري الذي ترفضه مصر، لافتا الى ان موقف بورندي كان يؤيد الى حد كبير الرؤية المصرية لحل الملف ، واعتبر ان انشغال مصر بالتطورات الداخلية ربما يكون قد شجع الدولة الافريقية على الانضمام الى الاتفاقية. ويواجه رئيس الوزراء المصري الذي حملته الجماهير الى مقعده قائمة طويلة من الأزمات والمطالب على المستوى الداخلي، لم يستطع ان يواجهها رغم مضي شهر على ادائه القسم ، وتبرز الاحتجاجات الشعبية المتواصلة والاعتصامات العمالية حجم المصاعب التى تواجهها حكومته فى ادارة إرث مبارك ، وربما دفع تذمر شرف من تواصل الاعتصامات والاحتجاجات فى قطاعات حيوية من البلاد وتوقف عجلة الانتاج ، المجلس العسكري الى اصدار قانون يجرمها، وهى الخطوة التى قوبلت بسخط شعبي واحتجاجات اصبحت سمة الشوارع المصرية . فيما يواجه خارجيا بعدد من الملفات يعتبر ملف مياه النيل اخطرها ، وطبيعة هذا الملف الخاصة ، دفعت بالحكومة المصرية الى ان تبقى بشكل واضح على بعض الاستراتيجيات التى اتبعها النظام السابق للتعامل مع مواقف دول الحوض المتعنتة، وربما ساهم ذلك فى الابقاء على بعض وجوه الرحلة السابقة مثل وزير الكهرباء حسن يونس ووزيرة التعاون الدولي فايزة ابو النجا ، فيما تتزايد التكهنات بالابقاء على دور ما للاجهزة الامنية فى مرحلة ما من الصراع. وكانت حكومة شرف قد أعلنت عن البدء فى خطة تحرك عاجلة للحفاظ على حقوقها فى مياه النيل كما تحددها الاتفاقيات والأعراف الدولية، ويعتمد الموقف المصري بشكل كبير على تلازم المصالح السودانية المصرية فى هذه القضية، وهو الامر الذي يعتبره مراقبون غير صحيح بالمرة، فمصالح السودان بنظرهم قد تكون فى اعادة اقتسام ايرادات النهر بشكل يحقق زيادة فى حصته الحالية، وخاصة وان هذه الحصة سيتم اقتسامها مع الدولة الجديدة فى الجنوب. كما يرى اخرون ان السودان يرتبط بعلاقات استراتيجية مع دول حوض النيل لا يجدر به ان يخسرها بالخوض فى مواجهة مع هذه الدول بالوكالة عن مصر. وتبرز فى هذا الاطار علاقات السودان المتنامية والمتميزة مع اثيوبيا التى تقود دول الحوض الان في مواجهة مع القاهرة . ويدعم هذا الاتجاه السفير عثمان السيد الذي قال ان الاوان قد حان لان تترك مصر السودان ليتصرف ازاء هذه الملف بما يحقق المصالح الوطنية للبلاد، ومضى ليضيف «حتى اذا اقتضى ذلك ان يوافق دول حوض النيل الست فى تحركاتها»، ولفت السيد فى حديثه الى « الصحافة « بالامس الى ان السودان لن يضار من الاتفاقية التى وقعت عليها دول الحوض الست، اذ ان المقصود من هذه الاتفاقية هى مصر كما اعلنت غير مرة اثيوبيا وهذه الدول. وانتقد السيد المعالجة المصرية لملف مياه النيل ،ورأى ان مصر لم تترك الفرصة للخبراء المعنيين بالمياه فى البلدين لحل المشكلة فى اطارها الفني ،واقحمتها فى اطار اخر يرتبط بأمنها القومي مما تسبب فى تعقيد المشكلة. وطالب السفير عثمان السيد مصر مابعد مبارك بمراعاة حساسية وضع السودان، وترك هذا الملف للخبراء فى وزارتي الري فى البلدين ليعالج فى اطاره الفني، بما يحقق المصالح الوطنية لاي من البلدين. غير ان المخاوف المصرية من المشروعات التى تعتزم دول حوض النيل اقامتها، عبر عنها وزير الرى المصري السابق الدكتور محمد نصر والذي قال ان المقترحات الاثيوبية بانشاء اربعة سدود تخزينية كبرى على النيل الأزرق، وهى «كارادوبى، وبيكو آبو، وومندايا، ووبوردر» بسعة اجمالية 141 مليار متر مكعب تمثل تهديداً مباشراً لحصة مصر السنوية من مياه النيل، وتحقق عجزا يصل الى 20% من المياه الواردة الى مصر، كما انها تقلص دور السد العالي فى تخزين المياه. وقال الوزير المصري السابق ان السعة الاجمالية لهذه السدود من المياه تصل الى ما يقرب ثلاثة أمثال ايراد النيل الأزرق نفسه، مما يؤدى الى تحكم استراتيجى شبه كامل فى تدفقات المياه الى مصر. الا ان المخاوف المصرية المتوارثة من بناء اي سدود على مجرى النهر، تحاول ان تبرز هذه المرة المخاطر التى قد يتعرض لها السودان فور سماحه باقامة هذه المشروعات. فقد حذر وزير الرى السابق من خطر احتمال انهيار أحد السدود التى تنوى اثيوبيا بناءها، وزعم ان ذلك سيحدث آثارا تدميرية هائلة على مصر والسودان، وقال « فى حال انهيار سد بوردر الجارى انشاؤه حاليا فى أثيوبيا، سيؤدى الى انهيار سدى الروصيرص وسنار فى السودان، وغرق العاصمة السودانية الخرطوم فى موجة فيضان يصل ارتفاعها الى 9 أمتار»! فيما تقلل الخرطوم من تأثيرات توقيع دولة بورندي على الاتفاق الذي ترفضه مصر والسودان، ويدعو الى اجراء حوار بين الدول المعنية للوصول الى مشتركات تراعى المصالح الشعبية لدول الحوض. وقلل عضو فى وفد الحكومة السودانية فى مفاوضات مياه النيل، من اهمية توقيع بوروندى على اتفاق عنتيبى، واوضح أن الدول الست التى وقعت على الاتفاق لم تصدق عليه حتى الان برلماناتها. واعتبر الدكتور أحمد المفتي فى تصريح للزميلة « الاهرام اليوم «توقيع بوروندى مجرد اجراء شكلى، وأنه ليس معناه دخول الاتفاق حيز التنفيذ، ودعا الى عقد اجتماع طارئ لوزراء مياه دول حوض النيل، وذلك لتحويل مبادرة حوض النيل الى مفوضية، ومناقشة تقرير لجنة خبراء دول الحوض، مؤكداً أن المشاكل لن ولم تحل بالاتفاقيات الجزئية، وأنه لا بد من اتفاق يوافق عليه الجميع، وقال ان ما تم انجازه كبير جداً الى الآن، ولابُد من العودة الى طاولة المفاوضات. فالموقف السوداني من أزمة مياه النيل بحسب المفتي ظل ينادي علنا بضرورة الحوار بين دول الحوض من اجل التوصل الى حلول متفق حولها، الا انه نأى عن السير فى ركاب التصريحات والتحركات المصرية المستفزة، مما دعا دوائر سياسية واعلامية فى القاهرة الى التحذير من هشاشة الدعم السوداني لمصر، وتوجيه اتهامات من طرف خفي للخرطوم بموالات العواصم الافريقية سرا. الا ان التعويل المصري على السودان لم يقف عند التحركات السودانية فى دول الحوض فقط ، وانما يطمع كما يبدو الان الى اضطلاع السودان باقناع الدولة الجديدة فى الجنوب، بعدم التوقيع على الاتفاقية والالتحاق بالموقف الموحد للدول الست. وتعطي تصريحات القيادات فى جنوب البلاد مخاوف الاشقاء مصداقية، فقد اكد الامين العام للحركة الشعبية باقان اموم فى حوار اجرته معه «الصحافة»، فى فبراير المنصرم، ان موقف الدولة الجديدة فى الجنوب من أزمة مياه النيل لم يتشكل بعد، والمح باقان الى ان الموقف الجنوبي قد يتجه الى حيث تتحقق مصالح الدولة الجديدة، الا انه لفت الى الالتزامات المعلنة منهم تجاه القاهرة تقف عند عدم مطالبتهم بجزء من حصة مصر واقتسامهم مع الشمال الحصة التى اقرت الاتفاقية المعنية. ولا تقف مخاوف القاهرة مما يتشكل فى الجنوب عند ملف المياه فقط، فقد تكاثرت التقارير الاعلامية المصرية المحذرة من تنامي النفوذ الاسرائيلي فى جوبا، ولم تساعد تصريحات المسؤولين فى الجنوب فى تهدئة هذه المخاوف بل ربما تكون قد ساعدت فى تصاعدها، ويقف شاهد على ذلك تصريحات الوزير برنابا بنجامين من ابوظبي فى فبراير من العام 2010 التي تفيد بان الجنوب سيقيم علاقات مع اسرائيل بعد أن يتم انفصاله عبر الاستفتاء، لكنه عاد وربط ذلك باعتراف اسرائيل بالدولة الجديدة في السودان. وتعهد برنابا بأن تبني الدولة الجديدة علاقات جيدة مع مختلف دول العالم بما فيها اسرائيل. ورغم ان وزير التعاون الاقليمي بالجنوب دينق الور حاول ان يهدئ كل المخاوف التى يمكن ان تنشأ من هكذا تصريح ، بنفيه بشدة عدم وجود اتجاه كذلك لصحيفة الاهرام المصرية ، الا ان مصر مبارك ومن بعدها مصر الان لا زالت تضع فى حسبانها انها ستواجه فى المستقبل القريب تداعيات هذه العلاقة المتوقعة على امنها القومي. وربما سيكون محور الحديث فى جوبا بين الوفد المصري الرفيع والمسؤولين هناك كيفية ترسيخ علاقة بين البلدين تتخطى المرسوم فى عهد مبارك، وتساعد على احتواء اي اضرار قد تنشأ من وجود اسرائيل فى الجنوب. واللافت فى ما يخص علاقة مصر مابعد مبارك بالدولة الجديدة فى الجنوب، انها تنطلق من ذات المسار الذي اختطه النظام السابق، رغم اعتقاد رجال الثورة بان من اخطر الخطايا التى ارتكبها النظام السابق سماحه بانفصال جنوب السودان . ويبقى ان خطة الحكومة الجديدة المصرية لحل مشاكل المياه مع دول المنبع تتركز في 5 محاور أساسية، الا ان هدفها يظل قديما وهو «الحفاظ على الحقوق التاريخية لمصر وتحقيق الأمن المائى». ويفصل الخطة وزير الرى المصرى العطفي فيقول ان فى مقدمتها التحرك الدبلوماسى من خلال وزارات الخارجية والتعاون الدولى والموارد المائية والرى لعرض وجهة نظر مصر، والتفاوض حول نقاط الخلاف والوصول الى صيغة تفاوضية ترضى جميع الأطراف، ويمضي العطفي الى المحور الثانى وهو العودة الحقيقية الى التعاون مع دول القارة الأفريقية والاتحاد الأفريقى لتعزيز وجهات النظر، والعمل على تنفيذ المزيد من المشروعات المشتركة فى مجال الكهرباء والزراعة وتوفير مياه الشرب والسياحة والنقل لصالح شعوب دول الحوض جميعا. ويشير الوزير المصري الى أن المحور الثالث يرتكز على تعزيز التعاون الثنائى بين مصر ودول الحوض وتبادل المنفعة مع عدم الاضرار بأية دولة من دول الحوض، والمحور الرابع الاهتمام بالدبلوماسية الشعبية ومشاركة الأحزاب والقوى السياسية والشباب فى بناء الثقة بين الشعوب بدول الحوض، أما المحور الخامس والأخير فهو اللجوء الى القانون والتحكيم الدولى.