(أن هذا الوطن لم يبتل ابتلاء مؤلماً بقدر افتقاره لقيادة وطنية ملهمة!!) لم يدخل السودان قط خلال عمره الطويل في مأزق أكثر تأزماً وحرجاً مما يحيط به اليوم. انه لواقع يؤرق وجدان كل سوداني يأمل في أن يحقق هذا الوطن شيئا من التماسك والوحدة يبقيه كياناً واحداً وجسداً يتداعى له سائر الجسد ان أصيب منه عضو بعطب أو مكروه. إلا أن هذه الأماني الآن تتبخر وتتداعى في ظل هذا الانحدار السياسي المتهاوي نحو الأسوأ. لم تخلُ ساحاتنا السياسية خلال مراحلها المختلفة من أزمات متكررة ومصائب متواترة متمثلة في الانقلابات العسكرية والاخفاقات الحزبية والتداول المشؤوم للسلطة عبر هذه الثنائية المعلولة التي لم تقدم السودان شبراً واحداً بل أمعنت في التغلغل به نحو هذا التردي الذي يطبق علينا الآن. لقد تعايش هذا الشعب مع التخلف والفقر وصبر على تردي الأحوال التي أقعدته عن اللحاق بالشعوب التي سبقته نحو الرقي والتحضر ومارس ضبطاً للنفس فوق الاحتمال متعللاً بأمل أن يأتي يوم يتجاوز فيه هذا الوحل الذي أقعده كثيراً. لقد كان تمرد جنوب السودان إيذاناً مبكراً واشارة واضحة الدلالة بأن وحدة هذا الشعب معطوبة ما يقتضي تدارك الأمر وممارسة قدر من الحكمة والعقلانية تؤمن قدرا من الوحدة والتماسك يعيننا في الانطلاق نحو الأمام. إلا أن هذه العقلانية كنا نعوزها تماماً ونفتقر للحكمة أيضاً. ثم تليى ذلك أن تفاعلت بؤر التوتر في الغرب والشرق وأواسط الوطن حتى تردت الأمور وبلغت المنحدر الذي استقرت فيه اليوم. لتضعنا أمام حقيقة واضحة وجلية مفادها ان وحدة هذا الوطن لم تعد ممكنة ان لم تجرِ معالجة جذرية لدواعي الاخفاق الذي لازم مسارنا السياسي خلال العقود التي خلت. لقد انزلق الوطن في مستنقع العراك والاقتتال حيث أريقت الدماء وأهدرت الأرواح وتعطلت بالطبع حركة النماء والتقدم في أجزاء واسعة من الدولة. ان الشعور القوي الذي ظل يهيمن على قطاعات واسعة من هذا الشعب بأن احتمال تقسيم هذا الوطن لا ينبغي تصور وقوعه، لم يعد هذا الشعور قوياً ومتماسكاً، فان سنن الحياة التي لا تبقي شيئا على ما هو عليه توشك أن تسطر لهذا الوطن مصيراً مغايراً تماماً لما ألفه الناس وداوموا عليه. لم تكن الحروب المطلبية التي تزامنت مع استقلال هذا القطر هي العنصر الأساسي والوحيد الذي اقعد أجهزة الدولة خلال مراحلها المختلفة عن تلبية تطلعات الأمة نحو النمو، بل كان للعقلية التي بادرت للتعامل ومعالجة هذه الانفعالات الثورية الغاضبة التي طرأت متزامنة مع فجر الاستقلال الدور المحوري في وأد فرص توحيد الأمة، وذلك من خلال غض الطرف عن العلة التي تغذي مشاعر الاحتراب والانقسام إلى تبني آليات القمع والاستئصال واسكات الحس المناهض للنظم الحاكمة. بينما تركت دواعي إلهاب هذه المشاعر الثورية المتأججة وعوامل نموها واستفحالها تنهض وتقوي في هدوء واضطراد، حتى بلغت في كمها وكيفها ما تضج به الساحة الوطنية اليوم. ولعل المتأمل لتجاربنا خلال السنين التي مضت وأداء النظم السياسية المتعاقبة ما بعد الاستقلال لتبين له كم كنا نغوص في وحل الاخطاء المتكررة والتخبط المستمر ما شل القدرة على الانطلاق وتحقيق التقدم الذي تنشده كل أمة، بينما بقية شعوب العالم حولنا تمضي وتزدهر فقد أدركت ان أولى لبنات التطور وتحقيق النمو تقتضي ضرورة ترسيخ وتقوية الكيان الوحدوي للأمة ولا يتسنى ذلك إلا من خلال بسط العدل واطلاق الحريات واتاحة فرص التحصيل والكسب دون حجر أو اعاقة لكي تنشط العقول وتزدهر المواهب، ثم مواجهة الأزمات والاشكالات الطارئة بمسؤولية وتمحيص عوامل نشوئها واقتلاع جذورها ليس من خلال آليات القمع وأدوات الإسكات بل من خلال التعاطي الموضوعي مع الأزمة. هذا ما افتقدناه كلياً في التعامل مع الأزمات المتكررة والمصائب المتواترة. إن هذا الوطن لم يبتل ابتلاءً مؤلماً بقدر افتقاره لقيادة وطنية ملهمة تحتضن تبايناته العرقية وتعقيداته الاجتماعية والسياسية المتعددة وتوظفها لخدمة للمقاصد العليا للأمة، ولم يصب هذا الشعب مصاباً قاتلاً بعمق ما حل بتنظيماته السياسية الخاوية في مضمونها العاطلة في قدراتها التي أورثتنا هذا الميراث البئيس وألقت بنا لنرزح ونزحف في ذيل الأمم نمضي مكبين على وجوهنا دون هداية أو دليل. لقد شكل المفهوم الذي رسخ في أذهان كافة السياسيين الذين تعاقبوا على حكم هذا الوطن بأنهم لم يخلقوا إلا ليحكموا، بينما غيرهم من أبناء الوطن نفسه لم يخلقوا إلا ليحكموا شكل محوراً قاعدياً دارت عليه أزمات الدولة، فقد أملى هذا المفهوم لحكام السودان المتعاقبين ضرورة نهج نمط من السياسات والممارسات تضمن الاستمرارية وتوارث الحكم في دائرة عرقية محدودة تفضي إلى ابقاء الحاكم حاكماً والمحكوم محكوماً في وطن تتعدد فيه الأعراق وتتقاطع ما يعد تكريس الحكم في دائرة عرقية بعينها عاملاً فاعلاً في إلهاب مشاعر الاعراق الأخرى واستفزازها وإشعارها بالدونية ما يهدد التماسك الوطني واستقرار الدولة. فقد مارست هذه النظم المتعاقبة في الحكم أساليب متعددة أمعنت في توسيع الفجوة بين مكونات المجتمع في جوانب الحياة الاجتماعية كافة سياسية كانت أم اقتصادية وبالطبع لتصب في مصلحة من يراد لهم مواصلة سلسلة الحكم الأبدي، بينما ترك الذين خلقوا ليحكموا يتخبطون في متاهات البحث عن فرص الفكاك من قيود التخلف والإفقار والجهل الذي كبلوا به ممن هم بالضرورة إخوانهم في الوطن لتصيب هذه الممارسات الخاطئة وحدة الأمة في مقتل. لقد اخطأت هذه النظم السياسية مبكراً المعيار الذي ينبغي أن يتفاضل عليه الناس للهوية والعرق أم للكفاءة والمقدرة؟ إلا أنها تبنت الخيار الأول وأخلدت إليه في غفلة أو غباء عجيب فأورثتها بالطبع هذا الواقع المرير وهذا التصدع والتهتك الذي شمل النسيج الاجتماعي الذي تقاسيه الدولة اليوم. ولعل السؤال الذي يتوجب طرحه لحكام السودان المتعاقبين ومناصريهم في خضم هذا العراك المتواصل. هب ان غيرهم من أعراق هذه الأمة ومكونها كان بيده مقاليد الأمور وزمام السلطة يتقلب فيهما كيفما يشاء واضعاً العراقيل أمام بقية اخوته في الوطن هل سيكون الخضوع وموالاة واقع كهذا هو سلوكهم بداهة وردة فعلهم، أم سيطلقون للثورات عنانها وللصيحات لجامها لتركيع واقع ظالم كهذا، أو على الأقل لانتزاع حق المساواة وارساء معيار أخلاقي للتحاكم والتفاضل عليه في منأى عن الجهوية والعرقية التي توشك أن تقتلع وحدتنا المزعومة من جذورها. يجدر بنا الآن أن نتأمل بروية تصدع الأمة ونذر تفكك الدولة ثم نهمس في مسامع من ولاهم الله أمر الناس أن يتبنوا سياسات من شأنها حسم اخطاء الماضي والانخراط في نهج جديد يعيد الثقة لقطاعات الشعب ويدفع بالوحدة الحاضرة اعلامياً والغائبة عملياً نحو المستقبل، أما التعويل على التغني بالوحدة والمباهاة بها كما يتصدر ذلك فاتحة اخبار التلفاز الرئيسة بعبارة (وحدة في تنوع) دون أن يرافق ذلك ممارسة عملية تشد أعضاء الأمة بعضها لبعض فيبقى جسرا من وهم لا يقوى على العبور بنا من هذا الوحل الذي التصقنا فيه. فكيف بأمة واحدة تنحدر نصف قرن في عراك متواصل ولم تبلغ منتهاه البتة ولم تتوافق على حلول تقيها مشقة هذا الاحتراب الدامي الذي أورثها هذا المصير المنكوب. ولعل السؤال الأكثر أهمية ونحن نكابد مشقة الخروج من نفق الأزمات التي ولجناها بطوع الارادة وقصر البصر والبصيرة هو: هل بوسعنا أن نكون أمة واحدة بحق؟ في مجتمع يرى بعضهم فيه مجرد انتمائه لقبيلة ما شرف لا يطاله إلا المنحدرون معه من صلب القبيلة وجذورها. إن أم الأزمات عندنا تتجلى في أننا نتوهم وحدة لا وجود لها في أرض الواقع، وحدة لا تقوى على الصمود فتنشطر وتتناثر وهي تصطدم بجدار الهوية معلنة اننا لسنا أمة واحدة وان ما ندعيه محض افتراء. إن العالم حولنا يتغير والأمم حولنا تتغير لتلبي متطلبات التغيير والتحول الذي يطال العالم بأسره حتى تضمن الاستمرارية وديمومة النهوض والارتقاء. إلا نحن في هذا الوطن المنكوب نأبى أن نتكيف ونتعايش مع متغيرات الواقع ونظل نغل أقدامنا في موروثات ماض أقعدنا عن اللحاق بالآخرين ونرهن ارادتنا لأهوائنا الشخصية دون مراعاة الاستحقاقات العليا لهذا الوطن كوحدته والانطلاق به نحو التقدم والازدهار. ان أزمات هذا الوطن توشك أن تبلغ منتهاها الآن معلنة أن ليس أمامنا خيار سوى اللجوء للحلول الجذرية للأزمات الناشئة بيننا وان أفق المناورة والإلتفاف حول الحلول الحاسمة المفضية لتفكيك اشكالية هذا الوطن لم يعد متاحاً بعد أن تكالب علينا الناس وتداعت علينا الأمم بحسن نواياها أو سوئها وأصبح لهم شأن وقول في شؤوننا وأمورنا الداخلية. إن نذر انتهاء جولة الممارسات السياسية السابقة واللاحقة لاستقلال السودان قد انتهت بعد أن نال الجنوب قدرا من الاستقلالية تتيح له الانفصال وبعد ان تسربت قضية دارفور للمنابر الدولية ولم يعد الحل بأيدينا ولم يعد بوسعنا شيئاً نفعله سوى ان كان هناك ثمة جهد نبذله فلتقوية جبهتنا الداخلية وان كان ثمة وقت فينبغي أن نصرفه في رتق نسيجنا الاجتماعي الذي تمزق أو فلنواجه نذر زوال هذه الدولة التي بدأت تلوح.