«لو ان ما تبقى فقط من عمري دقيقتان لقضيتهما في نشر الاستنارة» تلك العبارة هي ما تستقبلك وانت تضع اقدامك داخل مباني مركز الخاتم عدلان للاستنارة بالخرطوم، وهي العبارة التي استعارها اهل المركز بعد أن تحولت الدقيقتان الفاصلة عن نشر الاستنارة لشهرين هما ما تفصل بين شطري الوطن الواحد قبل التاسع من يناير، الوطنان الآن وقضايا صراعهما غير المنتهية وقضاياهما الغارقة في التعقيد لأبعد حد. والسؤال يؤرق المضاجع ليست مضاجع الشمال والجنوب، بل كل مضاجع العالم خوف العودة لما قبل نيفاشا واتفاقية سلامها الممهورة في عام 2005م، عودة تحمل في جوفها لعلعة السلاح وإشهار البنادق مرة أخرى، وهو ما جعل مركز الخاتم عدلان يضع مساهمته في الأمر من خلال مؤتمر مستقبل قضايا السودانيين والقضايا العالقة ما بعد الاستفتاء، ومضيفاً عبارة «حتى متى» العبارة التي حركت نقاشات المؤتمرين معها القضايا مثار الاختلاف، فالحدود والجنسية والقضايا الاقتصادية وقضايا مناطق التماس عند البعض والتمازج في وصف آخرين هي ما حركت نقاشات اليوم الاول التي اخذت فيها قضية الجنسية الحجم الاكبر في التعاطي، وتباينت الآراء حولها كل يدعم ما يدعو اليه، وفي بعض الأحيان يجد نفسه مضطرا للهجوم على الآخرين بالرغم من اتفاق الكل على ان قيمة احترام الآخر هي الحل الذي يرسم صورة باهرة لعلاقات الطرفين المستقبلية، وهو الأمر الذي انطلق على اساسه المؤتمر الذي يستمر ليومين. وبالرغم من الإعلان عن أن الافتتاح وكلمته سيتم تقديمهما من قبل الدكتور منصور خالد، الا ان المرض حال بينه وبين المشاركة، فقام بالدور الدكتور أمين مكي مدني، وحضر جلسة الافتتاح القيادي بالحركة الشعبية ياسر عرمان، بعدها بدأ تقديم الأوراق التي ابتدرها الأستاذ كمال الجزولي متناولاً موضوع توأمة الدولتين المستقلتين بين الواقع والممكن، بعد أن اعلنت نتائج الانفصال بعد أن فشل المركز في الحفاظ على الفرص المتاحة لتحقيق الوحدة، مرجعا هذا الإخفاق لسيطرة عملية المقابلة والتضاد بين مفهومي العروبة والأفريقانية في تحليل وتفسير الظواهر السياسية في علاقات الشمال والجنوب، وهو أمر ساهمت فيه الاحزاب شمالا وجنوبا، قبل أن يضع الجزولي ما سمَّاه أفق الحل التي يجب أن تبتدر بضرورة الاعتراف بنتيجة الاستفتاء بالانفصال من قبل الطرفين، ونشوء دولتين تمتلكان الاستقلال الكامل وبحدود 1956م، وإنشاء اتحاد كونفدرالي يحتوي على سوق مشتركة وعملة موحدة وجنسية مزدوجة ولو جزئياً، على أن تقوم مفوضية لتسيير أعمال الاتحاد يتفق على تكوينها بين الطرفين، على أن تصبح ابيي بعد تحديد اتجاهها منطقة تكامل، وتكون هي العاصمة الادارية للاتحاد، وتتمتع بالحكم الذاتي، مع اقرار برنامج الحريات الاربع، وتمتنع الدولة الأم عن اسقاط الجنسية عن رعايا الدولة المنفصلة تجنبا لخلق حالة البدون، وان هذا الأمر يمكن ان يكون مدخلا لتحقيق الاستقرار والحفاظ على حقوق 9 ملايين نسمة يقعون في مناطق التمازج بين الشمال والجنوب. وبحسب كمال فإن الأمر يحتاج لتحرك شعبي يضمن نجاحه واستمراريته. وفي ورقته ذات الطابع القانوني المعنونة بالجنسية والانفصال، انطلق الدكتور نبيل أديب من ضرورة أن يُعطى الجنوبيون الجنسية المزدوجة في الشمال، وهو بحسب تبريره حق قانوني كفلته لهم القوانين الدولية، وأكد عليه قانون الجنسية السودانية نفسه الذي يقبلها مع كل الدول. وقال إن هذا الامر ينطبق على الجنوبيين الذين كانوا يعيشون بصفة عادية في الشمال، والشماليين المقيمين بصفة عادية في الجنوب، بالاضافة لقبائل الحدود، وهو الامر الذي يتطلب التعامل مع الانفصال باعتباره طلاقا رجعيا وليس نهائيا، وهو ما يتطلب جعل الباب مواربا للعودة مرة اخرى للوحدة، وهو ما يتم عبر البوابة الشعبية والجنسية، الا ان محمد جلال هاشم في ورقته المسماة «علاقة الشمال والجنوب واستحالة فض الاشتباك» شن هجوما عنيفا على من سمَّاهم بالنخبة المثقفة في الشمال، واختص كمال الجزولي ونبيل أديب بهجوم خاص ربطه بعملية الحديث عن الجنسية المزدوجة، واصفاً هذا المصطلح بالمصطلح المفخخ. وقال إن كمال الجزولي ونبيل اديب هما من فتح آذان الحكومة لهذا الموضوع، قبل ان يقلل من اهمية الجنسية نفسها، حيث قال انه لا يوجد شعب تطالبه حكومته بجنسية الا في السودان. واعتبر الجنسية نفسها امرا يظل بلا اهمية ولا تدخل في الحراك اليومي، وهي فقط عبارة عن آلية من آليات الصراع، قبل ان يقول ان الامر الذي يحتاج لنقاش حقيقي هو امر المواطنة ومدى توافر قيم المساواة في الحقوق والواجبات تحت ظلالها، قبل أن يعود ليتناول فكرة الانفصال الذي وصفه بأنه صناعة حكومية خرطومية تعبر عن فشل النخبة السودانية في ادارة قضايا التنوع. وفي ما يتعلق بمستقبل علاقة الطرفين شمالا وجنوبا، قال إن العلاقة هي علاقة ارتباطية غير قابلة للانفصال، وانه من الصعوبة بمكان فك الارتباط بينهما، متخذا من دولة الجنوب نموذجا، قائلا انها الآن وبالرغم من اتخاذ اهلها لخيار الانفصال، الا انها تبدو في قمة ضعفها، وان ارتباطها الاقتصادي بالشمال يجعلها تحت رحمة الخرطوم من خلال أنابيب النفط التي تعتمد عليها جوبا بنسبة تفوق ال 97%، مما يجعل عملية الانفصال شكلية لا أكثر، قبل أن يقول إن المعيار الحقيقي الواجب التعاطي معه هو معيار المواطنة، بعيداً عن ثنائية جنوبي وشمالي، فالجنوبي هو المقيم بالجنوب حسب التعريف بغض النظر عن العوامل الاخرى التي تنطبق ايضا على الشمالي، فهو المقيم في الجنوب، قبل أن يحذر من عملية سحب الجنسية بشكل جماعي، وهو ما لا يقره القانون، قبل ان يتساءل عن عملية تحديد من هو الجنوبي ومن هو الشمالي، هل ستتم على اساس الشكل وتلك هي العنصرية، وقال ان ما يحدث الآن هو جدل منزلق الى لا شيء، ولا يوجد سوداني اكثر سودانية من الآخر. وختم حديثه بأنه طال الزمن او قصر ستقل فترة الاستقطاب، وستعود الامور لنصابها الطبيعي، فعلاقة الشمال والجنوب تعبر عنها عبارة «سيك سيك معلق فيك»، لا فرق بين الخرطوموجوبا، فإن اتفقا فإن الامور ستمضي، وإلا فإن الخرطوم لن تترك جوبا وكذلك جوبا. وعندها سنعود لأسوأ مما كنا عليه في ظل توافر كل مقومات العنف. الدكتور عطا البطحاني في ورقته «الإطار التحليلي لعلاقات الدولتين المستقبلية في ظل حالات التباين» وضع توافر الارادة السياسية باعتبارها المسؤول الاساسي عن عملية الاستقرار، مشيرا الى ان التجارب السابقة ووجود المجتمع الدولي باعتباره ضامناً، وخرائط الطريق للتنفيذ.. كلها امور تظل بلا جدوى في غياب ارادة سياسية حقيقية. وهو ما يعني أن الابتعاد عن الإطار القانوني والفني والانتقال بالقضايا للاطار السياسي هو الحل، وهو وضع يجب فيه استصحاب ما سمَّاه فشل المشروع السياسي للمؤتمر الوطني، والمشروع السياسي للحركة الشعبية في البال، والعمل على ايجاد صيغة جديدة تحقق في حدها الادنى استدامة السلام واستبعاد فكرة العمل من اجل البقاء في السلطة باعتباره حداً أقصى، وهو ما يبدو ماثلا الآن على السطح المحتقن. وفي ورقته التي اتخذت بعد النقاش بناءً على محور الاقتصاد من خلال تكرار عبارة السعي من اجل تعظيم المكاسب، تناول الدكتور سيف الدين داؤود عبد الرحمن في ثنايا تناوله لمستقبل العلاقة بين الدولتين، ضرورة تجاوز النظرة الماضية التي تضع طرفي الربح والخسارة، الى معادلة جديدة تقوم على ضرورة المكاسب المتبادلة، وضرورة تبني رؤية تقوم اساسا على اساس الاقتصاد السياسي، وهو أمر يعني تجاوز سلبية النظرة للعلاقة، مضيفا أن من مصلحة الطرفين العمل معا من اجل تحقيق تطلعاتهما، والابتعاد عن التفكير السطحي للتفكير العميق. ويجب على حكومتي الشمال تبني خطاب داعم لهذا الاتجاه، وتقوية المبادرات الساعية لتقليل حدة الخلاف والشقاق. ويضيف قائلاً ان هذا الامر يجب أن يتم في اطار الفعل الموضوعي بعيداً عن خطاب العاطفة، وهو ما يقود للحفاظ على المصالح الاجتماعية والسياسية للطرفين في جوباوالخرطوم. وقال داؤود إن مجموعة من التحديات ستواجه الطرفين بعد الانفصال، خصوصا الاقتصادية، والتغلب عليها يتم بالروح المشتركة. وقال إن الاحاديث المتداولة عن فتح ابواب الجنوب ليوغندا وكينيا واغلااقه امام الخرطوم أمر للخرطوم دور فيه، فإن الجميع يعمل في الفراغ لتحقيق مكاسبه، وهو ما يجب ان يستفيد منه الشمال الآن. وحذر من عملية اغلاق الجنوب الآن ومنع البضائع من الانتقال بسلاسة، فهو امر سيتضرر منه مواطنو الدولتين شمالا وجنوبا. ونادي بضرورة الاستفادة من علاقات التواصل الآنية بخلق مدن محورية بين الشمال والجنوب، فهي أمور من شأنها أن تقلل من حدة التناحر والصراع عبر نظرية تبادل المصالح بعملية تعظيم المكاسب التي تناولها داؤود في ورقته، والاختلاف حول الجنسية المزدوجة والمواطنة والتاسع من يوليو الذي يزحف سريعا. ورفعت الجلسة في يومها الأول على ان تعاود الانعقاد اليوم من أجل ايجاد حلول لعلاقة مستقبلية تعترض مسيرها مجموعة من الاشواك.