كِدْتُ أصرخ باكياً وأنا استمع لأولئك الدكاترة والبروفيسرات وهُمْ يتحدثون عن مآسي قطاع الثروة الحيوانية بالسودان! حدث ذلك في ندوة: «تداعيات انفصال الجنوب على قطاع الثروة الحيوانية والمهنة البيطرية» التي أقامها المجلس البيطري السوداني بالتعاون مع البنك الزراعي السوداني يوم السبت الماضي بقاعة البنك الزراعي، ونسبة لسخونة المناقشات وأهميتها فقد استمرت الندوة لسبع ساعات متواصلة تخللتها، استراحة قصيرة لمدة ربع ساعة فقط. وأجابت الندوة تقريباً عن كل الأسئلة التي كانت تدور في رأسي قبل حضورها، إلا أنها رسمت سؤالاً صعباً لم أجد له إجابة حتى هذه اللحظة، وهو: لماذا يفشل قطاع الثروة الحيوانية في بلاد بها مثل هذا الكم الهائل من حملة الشهادات العليا؟ وتحدّث المتحدثون من أوراق علمية كتبوها بأنفسهم، ووزعت تلك الأوراق على الحضور في ملفات فاخرة، لم يتركوا شيئاً عن مهنة الطب البيطري، وعن معاناة الرعاة الرحَّل، وصراعات الموارد، وآثار الانفصال على الثروة الحيوانية. وبعد ذلك أُتِيحَت الفرص للمعقِّبين، ونلاحظ أن جلَّهم وزراء سابقون في الثروة الحيوانية والزراعة والمالية وبنك السودان. وشكا عبد الرحيم حمدي من ضعف سمع الحكومة، وقال: «يبدو أن أذنين اثنتين لا تكفيان للسمع في هذا الزمان» وكان حمدي واضحاً في طرحه، فهو يرى أن النمط التقليدي للرعاة بالسودان يعرقل الإفادة من ثروتنا الحيوانية، ومن واجب الحكومة أن تغير هذا النمط رأفة بهؤلاء الناس وشفقة عليهم، ونفس هذا المقترح ذكره بعده محافظ بنك السودان الأسبق ولكن بطريقة مختلفة عن طريقة حمدي، فقد قال إنه يجب تدمير النمط الرعوي التقليدي.. تدميراً وليس تغييراً. وتحدث حمدي عن أهمية وجود خطط واقعية، وعلى كل ولاية أن تضع خطتها بعيداً عن السياسات العامة للدولة، لأنه كلما كانت الخطة خارجة من جهتها المعنية كان احتمال تطبيقها أكبر، وأمَّن كذلك على أهمية المحميات الرعوية والشراكات الذكية أمّا دكتور العاص فقد كان تعقيبه ينضح بالمرارة والأسى، وقد شكك في الإحصاءات الرسمية لأعداد الثروة الحيوانية بالبلاد، وقال: إن خمسين بالمائة من تلك الأرقام غير موجودة، وأعرب عن أسفه وخجله من استيراد البلاد لألبان بمئتي مليون دولار سنوياً، ورأى أن الحل العملي هو الاهتمام بالمراعي، وحكى تجربته في مراعيه الخاصة فهو يقوم بشراء الأمباز والأعلاف بنفسه، وأن النعجة عنده في السنة تصير خمس نعاج؛ فهي تلد مرتين في العام، وفي كل مرة تلد توأماً أو ثلاثاً، بينما تلد النعجة عند الراعي التقليدي مرة واحدة في العام، وهي تلد حملاً واحداً، وأغلب تلك الحملان يموت نتيجة للجوع والحرمان من الرضاعة واعتداءات الحيوانات المفترسة، وذكر دكتور العاص أن وزن النعجة عمر سنة واحدة في مزارعه يفوق وزن النعجة عمر ثلاث سنوات عند الراعي التقليدي، وواصل ليصب جام غضبه على السياسات الفاشلة بالبلاد، وطالب بوجود إرادة سياسية تنهض بقطاع الثروة الحيوانية. ومن بين المعقبين الوزير الإمام عبد الله منهل وزير الثروة الحيوانية بولاية النيل الأزرق، وقد تعجّبت كثيراً وأنا أستمع إلى شكواه! إذ يفترض منه أن ينظر في شكاوى الرعاة بدلاً من أن يشكو سوء حاله للناس. المهم أن الوزير كان ساخراً في طرحه، فقد ذكر أن سعر رطل اللبن في ولايته قد وصل إلى جنيهين اثنين، بينما سعره في الخرطوم لا يتعدى الجنيه الواحد، وقال إنه فكر في أن يحمل على سيارته عدداً من براميل اللبن إلى ولايته عند عودته إذا كان ذلك ممكناً! ومن طرائفه أنه «اندرع» للدكتور بيومي في رقبته وقال له: إنه لم يسمع من قبل بمجلس الرحل الذي يترأسه الدكتور بيومي، ولذلك فإنه سيذهب ليتغدى معه في بيته بعد انتهاء تلك الندوة، وقد تمكن أحد المتحدثين بعده من إنقاذ الموقف بأن اعتذر للوزير بأنهم أناس رحَّل لا يملكون بيتاً ويقيمون ضيوفاً في الخرطوم.. ونواصل إن شاء الله.