ما أن بدأت الأيام تمضى سراعاً نحو التاسع من يوليو «الموعد المحدد لتقنين الانفصال»، إلا وراح البعض يقرعون الطبول ويشحذون النصال لقطع رأس نيفاشا والنيل من مفاوضيها. هذا التوثب والتدافع الذى يريد رأس نيفاشا وربما رؤوس مفاوضيها، جعل كثيراً من الاسئلة الحائرة تطوف برأسي: أهى مراجعة سياسية وصحوة ضمير استنام طويلاً؟ أم تصفية حسابات لاحتقان متراكم يتوارى خلف هذا المسعى المحموم؟ وقبل أن نجيب على هذه الأسئلة حول هذين الاحتمالين،لا بد أن نثبّت عدة حقائق اساسية لا جدال حولها، أولها أن نيفاشا لم تكن رهاناً على الانفصال بقدر ما كانت الوحدة هى الأمل المرجو فى نفوس المفاوضين. ثانيها أن نيفاشا - إن نسينا - لم تكن اجتهاداً فردياً بقدر ما كانت توجهاً رسمياً وقومياً جامعاً اصطفت لمؤازرة خطوطه العريضة كافة القوى السياسية .. حاكمة ومعارضة. ثالثها أن أزمة الجنوب ونيرانها ظلت تقتات على إخفاقنا السياسى المستمر منذ اربعينيات القرن الماضى وحتى أيامنا الحالية ... كل تلك الحقب والعهود المتعاقبة والنظم الحاكمة والكيانات السياسية، رمت بأعوادها وجمرها فى تلك النار المتقدة منذ عهد الاستعمار إلى عهد الإنقاذ. إذاً فيم التسارع الى نصب أعواد المشانق لنيفاشا ومفاوضيها ؟ وفيم يتعجل حاطبو الليل وما أكثرهم من بعض قوى المعارضة ومن بعض المقربين من دوائر الحكم لمداراة تربصهم وهم يتوارون وراء لافتات الإدانة والتبخيس لمن حملوا مسؤولية تحقيق السلام، يحدوهم أمل عريض في أن تفضي نتائج المفاوضات في نهاية المطاف إلى تحقيق الوحدة، ولكن تأتي الرياح بما لا تشتهي السفن لأسباب معروفة ومعلومة. قد نختلف مع السيد أبيل ألير فى كتابه الشهير «جنوب السودان .. التمادي فى نقض المواثيق والعهود» وهو يخلص إلى أن جذور أزمة الجنوب تعود الى ممارسات الرق والاسترقاق منذ حقب مملكة سنار والعهد التركى ثم الدولة المهدية انتهاءً بالسنوات الباكرة للاستعمار البريطانى، ليس من باب الانكار المطلق ولكن تسليماً بحقيقة تاريخية تقول بأن السودان لم يكن استثناءً من تلك الممارسة البغيضة التى عرفتها وأسهمت فيها كل بلدان العالم وعلى رأسها دول العالم «المتحضر» فى اوربا القديمة وامريكا، فالرق والاسترقاق يظل تراثاً اجتماعياً سالباً تتحمل وزره البشرية جمعاء. ولعل من باب الانصاف أن نسجل لمولانا أبيل رصده الدقيق لدور الادارة البريطانية الاستعمارية فى بذر النهج الانفصالي لدى ابناء الجنوب حين كتب يقول «بمقدم عام 1930م راحت الادارة البريطانية تعمل على فصل الجنوب بصورة تامة عن الشمال بقرارات رسمية اصدرتها حينذاك، منها قانون الجوازات وأذونات العمل الصادر فى 1922م، الذى كان يفرض قيوداً صارمة على حرية التنقل فى الحدود بين الشمال والجنوب، ويمنع السودانيين الشماليين من الاقامة فى الجنوب إلا بإذن، ويقيد حرية اهل الجنوب فى النزوح الى الشمال، فمنعت نشر اللغة العربية والاسلام فى الجنوب، وحتى الملابس التقليدية لأهل الشمال كانت تثير غضب الحكام ولا تجد ترحيباً من الحكومة. وشجعت استخدام اللغة الانجليزية واللهجات المحلية فى الجنوب. وفى عام 1928 نظمت الجمعية التبشيرية الكنسية مؤتمراً فى الاستوائية قرر استخدام اللغة الانجليزية وسبع لغات جنوبية رئيسية وسيلة للتعليم فى الجنوب، واستبعد المؤتمر اللغة العربية». وقد أرجع السيد أبيل هذه السياسات الاستعمارية الخبيثة الى عدة اسباب، أورد من ضمنها تداعيات مقتل السير لي استاك حاكم عام السودان بالقاهرة في عام 1924م، وما تبعه من تمرد ومقتل بعض الضباط السودانيين وطلبة المدرسة الحربية، فقد كان بعض هؤلاء الضباط ينحدرون من أصول جنوبية «علي عبد اللطيف وعبد الفضيل الماظ»، وينادون بوحدة وادى النيل وقيام دولة واحدة تمتد من الدلتا فى مصر الى نمولى فى جنوب السودان، ويرى مولانا أبيل أنه كانت هناك خشية من أن تمتد آراء هؤلاء الضباط الى ذويهم فى الجنوب فتسمم المناخ على الادارة الانجليزية، مما ادى لإبعادهم حتى من الشمال ونفيهم الى مصر. وفى ذات الوقت تم إبعاد العناصر الشمالية من الخدمة فى الجيش والادارة فى الجنوب. لقد كان مؤتمر جوبا «1947م» أول اختبار حقيقي للثقة بين النخب فى الشمال وفى الجنوب، وعلى الرغم من أن نخب الجنوب لم تكن بذات النضج السياسى النسبى الذى توافر بالنسبة لرصفائهم فى الشمال، إذ تم تمثيل الجنوب عبر السلاطين وصغار الموظفين وضباط صف البوليس من ابناء الجنوب، إلا أن هذا المؤتمر فى تقديرى ورغم هيمنة المستعمر عليه - قد أضاع فرصة ذهبية وتاريخية لترميم الثقة وتوطيد لبناتها بين الشمال والجنوب، خاصة أن هؤلاء الزعماء الجنوبيين رغم قلة خبرتهم السياسية، وربما بفعل الحكمة الفطرية المتوارثة، آثروا أن ينتصروا لخيار التوحد مع الشمال مقابل تفهم أهل الشمال خصوصية وضعهم، وهى خصوصية لم يعلُ سقفها فوق الاعتراف بالفوارق الثقافية والتاريخية وتوفر اسباب المساواة. ولعل هذه الحكمة نلمسها فى قول السلطان لوليك لادو فى ذاك المؤتمر التاريخى، وهو قول أشبه بالنبوءة: «العلاقة بين الشمال والجنوب مثل علاقة شاب وشابة يعتزمان الزواج، ولكنهما يمهلان نفسيهما ليلم كل منهما بسلوك الآخر وميوله الاجتماعية قبل أن يتخذا قرارهما الأخير بالزواج أو بعدمه، لأن العجلة فى مثل هذه الاحوال تؤدى الى الشقاء، وربما الانفصال والطلاق بصورة عنيفة». تلك كانت أول محطة فى إخفاقنا السياسى المتراكم، ولقد فوتنا تلك الفرصة الذهبية حين تناسى برلمان الاستقلال و«صهين» عن ذاك التحذير الحكيم، ومنذ تلك الأيام بدأ سقف المطلب الجنوبى يعلو، وها نحن اليوم نحصد الشوك، ومع ذلك يصر المتربصون الذين يسعون لتصفية الحسابات على أن نيفاشا ومفاوضي نيفاشا هم الذين أضاعوا الجنوب، لينهمكوا فى رميها ورميهم بالحجارة، وكأن أولئك المتربصين بلا خطايا، متناسين أنهم كانوا يزرعون الشوك في طريق الوحدة غير عابئين بالنتائج التي هي وبال على الوطن كله. «نواصل الرحلة مع إخفاقنا السياسى فى المقال القادم».