منذ أن وعينا على هذه الدنيا، وفي اذهاننا ثنائية الشمال والجنوب - الجنوب بمعناه الجغرافي، والجنوب في المخيلة الشمالية - وكذلك الشمال في مخيلة ابناء الجنوب.. وبين هذين الخطين جرت أحداث كثيرة، فجرها تمرد الفرقة الجنوبية 18 أغسطس 1955 في توريت.. ومن أولى الأدبيات التي قرأناها في أولى مراحل تعليمنا تقدير لجنة التحقيق في احداث الجنوب للقاضي توفيق ميشيل قطران، والذي تضمن حقائق وقراءة للاحداث، وعرض لوجهات النظر المختلفة حول الاحداث ومسبباتها وتداعياتها.. وليس أقل من أن نقف عند تلك الاحداث لنأخذ العظات والعبر. فقد كانت ثمرة من ثمار السياسة البريطانية التي بدأت قبل احتلال السودان في 1898. ولعل الكثيرين منا قد اهملوا قراءة تاريخ التغلغل الاوربي وتدخله في شؤون السودان خاصة جنوبه ومنطقة البحيرات، ومن بعد ذلك العمل التبشيري وقانون المناطق المقفولة، فهم يعملون وفق استراتيجيات ذات مدى بعيد، وها هي قد أثمرت، مستفيدين من اخطاء سياسية وثقافية، ويقرأون تعقيدات الخارطة السودانية بتبايناتها وتناقضاتها، وتنوعها اللغوي وتمايزها الثقافي والحضاري. وليس هناك من قرأ هذه التناقضات وكيف انها قد صنعت مرارات تاريخية وتسببت في ازهاق دماء زكية بين اطراف الصراع، والوطن في حاجة إليهم جميعاً. نحن هنا نحاول في هذا اليم أن نطوي صفحة الماضي بكل عذاباته وجراحاته، وأن نفتح صفحة جديدة نتأمل فيها مسيرة الخيرين الذين عملوا على تناسي الجراحات والتسامي فوقها، وخلق علاقات جيدة بين ضفتي الوطن.. فقد كان هناك الشاعر السرأناي الذي تمت ترجمة قصائده إلى اللغة العربية.. وكان في الشمال السماني لوال أرو ساج الذي قام باخراج مسرحية (مأساة يرول) للأستاذ الخاتم عبد الله. وابناء جيلنا ومن تلاهم يحفظون أغنية يوسف فتاكي (ياي بلدنا وكلنا اخوان). وقد كان يوسف فتاكي مؤمناً بالوحدة ويعبر عنها، وهو من رموز الفن.. ومن رموز هذا الفن الفنان رتشارد ماكوبي الذي درسنا بمدرسة ود مدني الثانوية أواخر سبعينات القرن الماضي، وكان إلى جانبه من الاساتذة كليمنت سبت، دانيال، البينو، ورتشارد الذي درس في الجامعة الامريكية في بيروت كان فناناً في كل شئ: في طريقة عزفه على الجيتار، وفي تدريسه للغة الانجليزية والأدب الانجليزي، وقد خلف علاقات وثيقة مع تلاميذه، وكان لهم بمثابة الأخ الأكبر.. أذكر في احدى الاضرابات أن حذرنا من الاضراب في عهد المدير الأمين محمد أحمد كعورة، وقد كان مديراً لرمبيك الثانوية، وبالفعل كانت مواجهة الأمين كعورة للاضراب قاسية وعنيفة. وقد ذكر د. روفائيل كوبا بادال ان كعورة قد غيره من انفصالي إلى وحدوي حينما قال للطلاب في رمبيك (ان لديكم قضية ولا يمكن أن تحل القضية بالتوقف عن الدراسة) (العلم هو طريقكم لحل اشكالاتكم).. ولدي رتشارد ماكوبي اغنيات مسجلة في الاذاعة السودانية، وقد تناولتها ضمن برنامج الاستاذ شول دينق (جسور).. أما شول دينق فهو ذلك الزميل الذي وجدناه في معهد الموسيقا والمسرح، وعضو اتحاد الطلاب والاذاعي الذي ابدى تفوقاً في عمله، ومن بعد ذلك الاستاذ بجامعة أعالي النيل.. وهو أخ وصديق، وقد رأيت فيه قدراً من الوفاء قد لا يتوفر عند آخرين. ومن الذين اسهموا في مد الجسور من أهل الشمال الاستاذ سر الختم الخليفة، والذي عمل مسؤولاً عن التعليم في الجنوب، وكانت هذه الخبرة قد زكته لمنصب رئيس مجلس وزراء حكومة ثورة 21 أكتوبر التي كانت من أولوياتها حل مشكلة الجنوب.. وقد عقد مؤتمر المائدة المستديرة في 1965 وهو أول مؤتمر شمالي/جنوبي في عهد الاستقلال. ومن الفنانين المعروفين في الساحة الفنية الراحل عبد الله دينق والذي تغنى برائعة خليل فرح (عزة في هواك).. وهناك ديرك الفرد الذي درس الدراما واستيفن فيرا أوشلا - فرقة كواتو - واستيفن زكريا (الموسيقى) وماجوري وايضاً الينانا بالاذاعة والمسرح، وقد كانت لهؤلاء جميعاً مساهمات مع رفاقهم من أهل الشمال في اطار من الود والتسامح والمحبة التي ظللت الجميع سواء في مقاعد الدرس أو داخل اجهزة الاعلام.. وقد جاء تيار الغابة والصحراء ليحاول ان يقدم رؤية ثقافية للاشكال السوداني، ولكن تعقيدات الحياة السياسية والثقافية السودانية، وعدم وجود قنوات اتصال فعالة بين طرفي المعادلة (شمال/جنوب) لم تمكن المشروع من الوصول إلى غاياته.. وسبق ان قدمنا رؤية على صفحات (الصحافة) قبل أسبوعين لاستيعاب ما حدث والتعامل معه بواقعية، ويتجسد ذلك في استمرارية الحوار الثقافي بين الشمال والجنوب - وقد أدى تعثر هذا الحوار إلى نتائج سيئة - وينجلي هذا الحوار في انشاء مراكز ثقافية شمالية في الجنوب ومراكز جنوبية في الشمال. واستمرار التعاون الاكاديمي والعلمي بين الجامعات والمراكز البحثية، والاهتمام بدراسة اللغات المحلية الجنوبية في الشمال، وعدم اقصاء اللغة العربية في الجمهورية الجنوبيةالجديدة. ولعل هذه الآراء قد لا تغيب عن بال المسؤولين والتنظيمات في الشمال والجنوب، ولكن تجربة مركز اللغات في اتفاقية أديس أبابا 1972 ومجلس اللغات في نيفاشا 2005م ماثلة، فالعمل على تطوير الاهتمام باللغات المحلية واللغات الأخرى لا يكون خصماً على اللغة العربية في الشمال ولا على الانجليزية في الجنوب. وفي ختام هذه الوقفة لابد من قراءة المشهد السوداني من جديد، وان خيارات التعايش السلمي والحوار الثقافي هي الأبقى في نهاية المطاف، وان نعي ان تهميش الثقافة قد مثل عنصراً حاسماً في هذه الخيارات.