الكاتب المصري الراحل «سلامة موسى» كان واحداً من ألمع الكتاب الأحرار في مصر، فهو من جيل عميد الأدب العربي الدكتور طه حسين وعباس محمود العقاد والمازني وكان إيمانه بالتطور والحضارة المصرية إيماناً واضحا لا شبهة فيه، فقد ظل يناضل في سبيل عزة الكلمة الحرة وحرية الصحافة،فاشتد الحصار من حوله واشتدت الضربات الموجعة الموجهة اليه في محاولة لاسكات واخماد صوته وخنق رأيه سواء بالتهميش أو الاهمال كمداً من قبل السلطة الحاكمة؛ ولأنه كان صاحب رأي حر وهو يكتب بقلمه في العديد من الصحف المصرية لذلك كان من المغضوب عليهم من قبل السلطات حينما رفض أن يصبح قلمه صداحاً مداحاً لأهل السلطة وظل قلمه يتخندق بمعارضته للنظام الحاكم، مستمسكاً بمبادئه الوطنية وما يمليه عليه ضميره، وكانت كتاباته تشع ضياءً كضياء القمر عند منتصف الشهر، فضيقوا عليه الخناق فأصبحت كتاباته تشع ضوءً خافتاً هو ضوء المصباح وقد بقيت له قطرات قليلة من الزيت لا تسمح له بإعطاء النور القوي الباهر الذي تعوده القراء من هذا الكاتب العملاق، واغلقت السلطة في وجهه كل ابواب المهرجانات الثقافية والفكرية والسياسية حتى لا يشارك فيها او يدلي بدلوه نكايةً به حتى وفاته عام 1958م، وحالة الكاتب سلامة هي صورة طبق الأصل لحالة الزميلة «أجراس الحرية» التي عصفوا بها بقرار جائر واصبحت في ذمة التاريخ، فكم من صحف ظلت متوقفة قسراً عن الصدور وكم من كلمة خنقت ولم تر النور فأين اذن الحريات التي يتحدثون عنها؟. وأين هو التحول الديمقراطي الذي حملوه كقميص عثمان ابان الانتخابات المزكومة،يطوفون به الأقاليم يبشرون بمرحلة انفتاح ديمقراطي واسع يقود الى تحقيق وبسط كل الحريات واحترام حقوق الانسان وبعدالة اجتماعية للجميع،فإذا بنا نصطدم امام صخرة مشروعهم الحضاري الوهمي وما كان حديثهم عن الديمقراطية الا عبارة عن ذر الرماد على العيون ومناورات سياسية وما حديثهم عن حرية الصحافة الا عبارة عن عمليات تسكين فقط بينما ظلت سياسة الانقاذ تقف عند مربعها الاول لا تحيد عنه فأي حديث عن حريات كان حديثا أجوف لا معنى له، فمشروعهم الحضاري انكسرت وتحطمت كل احلام الفقراء عنده بينما اصبح عندهم سعر الفائدة للدولار أهم من رغيف الخبز ومن مواقيت الصلاة، ففي عهد الانقاذ حتى الكلمات فقدت معناها بل وفقدت عذريتها ومن أغرب الكلمات «المشنوقة» في بلادنا كلمة السلام وفي ظل هذا السلام المشنوق تفجرت الازمات السياسية حتى انفصل الجنوب وساد التوتر الدموي مناطق دارفور وكردفان، وفي غياب الديمقراطية عن البلاد صاروا، بل عصفوا بالكلمة الحرة وبالرأي الآخر الممثل في صحيفة «أجراس الحرية»، هذه الصحيفة التي ظلت منبرا حرا لكل الاقلام وكل انواع القوى السياسية تدلو بدلوها بلا تحفظ حتى أصبح لها رواج شعبي كانت لسان حال المهمشين والمنبوذين، وكانت بالنسبة لكاتب هذه السطور بمنزلة العين والفؤاد، فقد كنت احد كتابها وكانت ريحانة الصحف السودانية تستمد شرعيتها من شرعية شعبية هائلة ما ارتعد عندها قلم ولا تلعثم عندها لسان، بل ظلت شامخة كشموخ «السلمابي» وعرفات محمد عبد الله ويحيى محمد عبد القادر عمالقة الصحافة السودانية وأصبحت الاجراس من الصحف المميزة في قول كلمة الحق لا تهادن السلطة ولا تجاملها ولا تلاطفها ولا تغازلها. كان الخط التحريري لها خطا معارضا للنظام الشمولي، وكان هذا هو التاج الذي كان يكلل رأسها بالشموخ لم تنحن امام العواصف الشمولية التي كانت تهب عليها من وقت لآخر فكانت تتصدى لكل المشاكل على الطبيعة وعلى رأسها مشكلة مشروع الجزيرة وتناولت هذه القضية بكل صدق وأمانة ومسؤولية إحقاقاً للحق وحتى لا تهضم حقوق الناس وقفت بجانب الضعفاء وهم يواجهون جبروت وطغيان السلطة ليأتي اليوم الذي تتوقف عنده الصحيفة قسراً ونهائيا هكذا بجرة قلم سلطوي نحروها ولكن سوف تظل الصحيفة خير شاهد على النضال بالقلم ضد كل انواع القمع للكلمة الحرة الجريئة الصادقة في وجه السلطة وفي وجوه كل الحكام ان ارفعوا اياديكم عن الصحف الحرة الشريفة فلو أطاعتني الكلمات لصنعت من الزميلة «أجراس الحرية» اكليلا من الزهور أهديه لكل عشاق حرية الصحافة وحرية الرأي والرأي الآخر، فصحيفة «أجراس الحرية» التي شقت عصا الطاعة على السلطة ورفضت أن تكون مثل «الفارابي» الذي آوى الى كنف أمير حلب بسوريا وعاش في كنفه وفي بلاطه ورفضت كذلك ان تصبح وتعيش في كنف الخديوي توفيق باشا مثلما كان الشاعر أحمد شوقي يعيش في كنفه ردحاً من الزمن فهي عصية تأبى لذاتها ان تصبح بوقاً للسلطة وللحكام فاختارت شارع الصحافة الشائك الوعر بالمطبات السياسية حتى جسدت بصماتها الجلية البارزة في سجل التاريخ كما تركت على رمال الزمان آثار اقدام راسخة لا تبهت ولا تنمحي مهما توالت الاحقاب وتلاحقت الاجيال وانقضت السنون فهي عندما أشرقت في فجر الصحافة أشرقت كوكباً ونجماً ساطعاً.. أشرقت في فجر الصحافة كوكباً.. فتطلع الداني له والنائي فلا وجود لحرية التفكير اذا غابت عنها حرية الرأي وان كانت حرية الصحافة محجوبة عن الصحف فالاقلام أمضى من السيوف ونقول للشاعر المتنبي عذراً بل استميحك عذراً لأقول: حتى رجعت وأقلامي قوائل لي المجد للقلم ليس المجد للسيف وسوف نظل نذكر للزميلة «اجراس الحرية» صمودها أمام قول كلمة الحق وهي تحيطها بسياج قوي مادته الاصرار والعناد على ان تبقى الكلمة الحرة أقوى من ان تقهر رغم محاصرة الرأي والرأي الآخر مثلما المواطن الآن محاصر بأعباء الحياة وثقل الغلاء الطاحن فسوف تظل «أجراس الحرية» في قلوبنا ووجداننا «جيفارا السودان» وهي التي حرمت حق الدفاع عن ذاتها لم يمنحوها فرصة للدفاع واستبقوا كل شيء فالادانة كانت جاهزة بمطبخهم السياسي، وتنفس بعضهم الصعداء لدى سماعهم نبأ سحب الترخيص فرقصت اقلامهم طرباً ولكن هل ستكون صحيفة «اجراس الحرية» هي آخر المطاف للاطاحة بالصحف؟ هذا هو السؤال الذي يتحدى الاجابة فإن ظلت الاجراس شوكة في حلوقهم وأنوفهم، وأنهم ظنوا انهم حققوا انتصاراً كبيراً لكنه الوهم الذي ظلوا يعيشون بداخله حينما أفلسوا سياسياً وعجزوا ان يقارعوها الحجة بالحجة أشهروا في وجهها سيف المصادرة وهذا هو قمة الافلاس السياسي.. وكلمة أخيرة أقولها وانه حينما حطم الغوغاء واجهة نادي الخريجين بأم درمان عام 1948م تصدى اليهم القطب الاتحادي الكبير الاستاذ «يحيى الفضلي» قائلاً: ما حطموك وانما بك حطموا من ذا يحطم هامة الجوزاء فستظل «أجراس الحرية» هامة الجوزاء في نفوسنا وقلوبنا رغم شطط عقولهم وفتنة أفكارهم..