٭ ظللنا نركض وراءها ما يربو على الستين عاماً.. ولم تزدد إلا بعداً.. تلك هى الديمقراطية التي كانت، وما زالت حلماً جميلاً عشناه امداً طويلاً.. وما زالت امنية غالية يسعى لها صغيرنا قبل كبيرنا.. للعيش في نعيمها، ولكنها استعصت علينا بل اصبح تحقيقها ضرباً من ضروب المستحيل.. مما جعلنا نتساءل دائماً.. أذلك لعيب فيها ذاتها ام لعيب فينا.. بل محاولة الغوص في اغوارها لاجلاء الحقيقة، هو اكثر إستعصاء من تحقيقها. ومع ذلك ورغم اتسام امرها بالاستحالة. إلا أننا لا نيأس من محاولة الغوص فيها.. عسى ولعل.. فالديمقراطية في ذاتها لا تحتاج الى تشخيص او تعريف.. إذ اصبح مضمونها وكيانها وجوهرها امراً من البديهيات.. فلم تعد بحاجة الى بيان او توضيح فشمسها دائماً مشرقة.. وظلها دائم مدود.. تعمق وتعم به شعوب كثيرة لا مجال فيها للجنس ولا للعرق ولا للجاه.. الجميع سعداء في ظلها ترتسم الابتسامات دائماً في وجهوههم.. وتحدثنا عنهم القنوات الفضائية.. ما يرفلون فيه من نعيم ودعة واستمتاع بحياة آنفة.. ولا نسمع عنهم ولا ترى إلا الابداع الذي انع?ست آثاره على محياهم.. فما ينعمون فيه ليس إلا بسبب الاطمئنان والذي حقيقة لهم تلك المستعصية علينا.. أى الديمقراطية.. إذن العيب فينا وليس فيها!!.. فالعيب فينا نحن الذين ظللنا نركض وراءها حتى انقطعت انفاسنا دون جدوى!! فمن نحن؟ والتساؤل لا يقصد فيه المعنى الحرفي للاجابة المتوقعه وانما نقصد فيه معرفة موقفنا من الديمقراطية.. هل هى لنا بذات ظروفنا وذات نشأتنا وتركيبتنا.. ام ان تلك النشأة وتلك الظروف وذلك التركيب.. لا يستقيم مع الديمقراطية.. نحن دائماً سهل علينا لفظها بل ووأدها في مهدها مرات عددا.. من نحن.. وكيف كنا وكيف نحن الآن؟! قبل خمسين عاماً كان مجتمعنا صغيراً وبنيته الاقتصادية ضئيلة.. واكثر منها ضآلة بيئتنا التعليمية.. ولكن رغم ضآلة هذين المجالين إلا ان حظنا الديني كان كبيراً .. وملحوظاً وقد وقانا شرور ضآلة المجالين الاولين.. إلا ان أحوالنا الحياتية التي عايشتها اجيال متعاقبة.. هذه الاحوال انعكست على مفهومنا للديمقراطية.. بحيث قبلناها نظرياً.. ورفضناها عملياً.. بل يكاد مفهومها عندنا وحالنا معها .......... بانفصام الشخصية.. فنحن مع الديمقراطية في الحوار.. وفي الجدل والمناقشات في المنتديات وفي المقاهي وفي المجالس سواء في الافرا? أو الاتراح.. كلنا من انصارها.. لا نألوا دفاعاً عنها.. بل حتى الماركسيون تغنوا بها.. كهدف نهائي لكفاحهم.. بل وتغنت بها احزابنا جميعها ولكن.. كل ذلك الغناء لم يكن إلا مجرد إستهلاك محلي أى فض مجالس.. والقول هنا لا يلقى على عواهنه.. ولكنا نعزره بما يقطع حقيقة ما قلنا. أى التحدث عن الديمقراطية شيء والعمل بها شيء آخر.. أى انفصام بشأنها.. أى الديمقراطية في الظاهر ودكتاتورية غاشمة في الباطن والحقيقة. وللاحاطة بالامر تبدأ بالاسرة.. الاسر السودانية في مختلف قرى السودان جميعها تحت سيطرة رب الاسرة.. كبيرهم قبل صغيرهم.. لا نقاش ولا إبداء رأى.. إلا في حالات نادرة.. وحتى في تلك الحالات فإن ابدى الرأى.. فهو استئناساً فحسب رغم وجاهته وسداده.. يستوى في ذلك الراشد والقاصر.. الانثى والذكر.. المتعلم منهم، وغير المتعلم ابتداء من الزوجة.. الكل سمعاً وطاعة.. تلك الحالة التي صورها نجيب محفوظ في رواية السكرية وبين القصرين (سي سيد) سطوة وسلطان يتعدى ما يأكلون وما يشربون.. شاملة لجمع حياة من يعيشون تحت ذلك السلطان.. مما ?ان نتيجته تعثر الابناء في الكلام، والحياء في غير موقعه، والاستكانة الكاملة، والعصى لمن عصى، هذا ما كان من شأن الموقع الاول. ويجيء الموقع الثاني الخلوة وذكراها ما زال في نفوسنا وآثارها ما زالت في اجسامنا.. الجلوس ارضاً.. وبدء الدراسة قبل شروق الشمس وقبل تناول ما يسد الرمق، ورئيس الخلوة (الفكي) جالس بالكرباج.. كرباج طويل يلحق من يلحق منه بعيداً.. وكرباج قصير يتناول به من يجلس بقربه.. وعينان حمروان تتطاير شرراً ووجه متجهم ليس للابتسامة فيه سبيلاً، ثم تجيء لحظة التسميع والمحظوظ من أمر بمسح لوحه استعداداً للسورة الاخرى.. والشقي من تعثر فبجانب الكرباج والفلقة.. الاذلال بالشتم..!! ثم تجيء مرحلة الكُتاب لمن انعم الله عليه بالاستمرار يذهب الطفل في اول يوم متهللاً ولكنه لا يلبث ان يجد نفسه في مؤسسة ارهاب بمعنى الكلمة اساتذة وجوههم متجهمة وادوات للقهر والتعذيب منها على سبيل المثال تني الاصبع او وضع القلم بين اصبعي اليد والضغط عليها ومنها الجلد بالخزرانه في خف الارجل.. الذي تجعل الطالب رافضاً للذهاب اليوم التالي إلا بالصفع والتوبيخ من أولياء الامور.. بل والله على ما اقول شهيد.. بل من اولئك الطلبة من تبول في نفسه والدموع تنهمر من عينيه ظناً منه ان دور الجلد آتي اليه!! أما ان لم يكتب للطفل تلك المرحلة التعليمية فانه يلقي به في تلك السن المبكرة الى السوق ليتعلم الحرفة وكان ربها لا يقل قسوة عن الفكي او استاذ المدرسة ضرباً وركلاً وشتماً ومهانة واذلال والمبرر في الحالتين هو شد عود الطفل وتكوينه للدرجة التي كان يقال فيها لارباب المجالين التعليمي والحرفي لك اللحم ولنا العظم، ويستمر الحال في المجالين حتى مرحلة الابتدائي والثانوي من يعيش من اولئك النظار واولئك الصولات.. عليهم الرحمة. والناتج لكل ذلك في المجالين العلمي والصناعي.. تجهم في الوجوه بسبب او بدون سبب لا احتمال للنقاش والحوار ثم ما انفرد منهم بمملكته حتى مارس فيها ذات ما كان يمارس عليه.. دكتاتور آخر وهلمجرا كما يقول الصادق المهدي. وما ان انتهت تلك المراحل حتى احتضنت المؤسسات تلك المجموعة .. وتختلف تلك المؤسسات وتعدد منها الطائفي ومنها الحزبي ومنها ما يجمع بين الطائفية والحزبية ومنها القبلي ورغم تعددها واختلافها إلا انها تتسم جميعها بالطاعة العمياء.. فالطائفية تستوجب انصهار الشخص فيها كاملاً دون إعتبار لما يبرر الانصهار.. فقد يكون ايماناً كاملاً بها وقد يكون مداهنة ورياء لحاجة في نفس يعقوب والعصا فيها لمن عصى ولا ادل على ذلك إلا عصاة احمد المهدي في وجه الاستاذ كمال الدين عباس المحامي بسبب اعتراض الاخير على قرار من الاول دون ان تحميه ?قافته وعلمه من تلك العصا. والحزبية لا تقل في ذلك عن الطائفية في شأن الانفراد بالرأى وضرورة الانصياع.. ومن مقولة الزعيم ازهري (الى من يهمه الامر سلام) وما يتلو العبارة من قرارات توجب الانصياع والطاعة او الدمار الحزبي والتهميش لمن له رأى مخالف. وتعلو درجة الدكتاتورية والخضوع في الاحزاب العقائدية او ان محاربتهم للمنشق توصله الى الجنون. ننهي من كل ذلك ان القائمين على شؤونا على اختلاف أنواعها قد نشأوا وترعرعوا في ذات الدكتاورية. ونتيجة لذلك كانت الديمقراطية في عملية وأد مستديم منذ ان نال السودان استقلاله.. وما يسترعي الإنتباه ان اكثر من عانت عنهم الديمقراطية هم المدنيون وليس العسكريين.. لعبارة أخرى وراء كل انقلاب مدنيون لعبارة أخرى (فتش عن المدنيين) وراء كل انقلاب والامر لا يحتاج الى بيان.. بل آخره مقوله السيد الترابي الشهيرة (صافحته.. وقلت له اذهب انت الى القصر ونذهب نحن الى السجن). هل هذا يعني ان الدكتاتورية اصبحت فرضاً علينا لا يمكن الاستغناء عنها.. ام هناك سبيل للديمقراطية بشرط حمايتها.. وان اخترنا الامر الاخير أى الديمقراطية فمن تحمي.. هل في العسكريين ام من المدنيين هواة السلطة بأى ثمن؟!