طابت ايامك.. الحس الوطني دفع بقلمي ان ينساب مداده من اجل انعاش الخدمة المدنية ، لتصبح أمينة وقوية، آمل ان تجد مساهمة قلمي حيزا بزاويتك المقروءة.. (نمريات) همس في أذني استاذنا عبدالرحمن عمر موسى من الخلصاء المشفقين على حال الخدمة المدنية بالسودان قائلا: لقد فطن الاخ الرئيس عمر البشير لما اصاب الخدمة المدنية من سقم ووهن، فأشفق عليها ووجه بتأهيلها واصلاحها حتى يستقيم عودها.. حسنا فعلت اخي الرئيس.. اربع قلائد كانت تزين جيد بلادي، فهي كنوز ثمينة اهدانا اياها المستعمر البريطاني عقب جلائه من البلاد (1954): خدمة مدنية متألقة ومؤهلة ، ومشروع بالجزيرة كسته الخضرة بهاءً ، فهو عماد اقتصادنا ، وجامعة الخرطوم ثراء للفكر ، ومنارة للعلم، ومعقلا للعلماء، وسكة حديد بشموخها وتألقها.. وكان المستعمر يتغنى ويتباهى بها ويردد دائما بانها درر ونفائس وهبها للسودان، فعلى السودانيين الحفاظ عليها، والعض عليها بالنواجذ .. فهل تحققت أمنية المستعمر؟! اترك الاجابة لفطنة القارئ الحصيف ! عاش جيلنا حتى مطلع الثمانينات من القرن المنصرم مع خدمة مدنية civil service شامخة مشهود لها بالكفاءة والنزاهة.. وكان شاغلوها من الصفوة تتمتع بالاستقامة الفكرية، وعفة اليد واللسان ومكارم الاخلاق والحيدة المطلقة، فكانت هذه القدوة من العقد الفريد تدير دفة الحكم بصدق وامانة ببلادي امثال: نصر الحاج علي، ومكاوي سليمان اكرت، داؤود عبداللطيف، وحماد توفيق الذي عرف باستقامته ونزاهته المفرطة ، وحُكي عنه: عندما تسلم مقاليد منصبه كأول وزير للمالية كان يتقاضى مرتبا شهريا لم يتجاوز «150» جنيها آنذاك.. ولم يمكث طو?لا حتى تم تكليفه من قبل مجلس الوزراء ليشغل منصب مدير البنك الزراعي الذي انشأ يومذاك ، ومنح مرتبا شهريا يبلغ 200 جنيه، وطلب تخفيض مرتبه ليصبح اقل من مرتب وزير المالية الذي يرأسه حسب التدرج الوظيفي وعندما رفض مجلس الوزراء تخفيض مرتبه، قدم استقالته مبررا حجته بأن هذا اعوجاج في الخدمة المدنية، ولا يقبل ان يصبح براتبه اعلى من راتب رئيسه، فوافق اخيرا مجلس الوزراء على تبريره، وعدل مرتبه فسحب استقالته .. فأين نحن من هذا المسلك القويم، يوم كان السودان يتمتع بالصحة والعافية؟! وهنالك امثلة عديدة لرجال افذاذ ارسوا قواعد قوية صلبة لخدمة مدنية مؤسسة ملأت سمعتها الآفاق، وكانت معظم الدول العربية الافريقية، والاسلامية تتوالى طلباتها على نخبة السودانيين .. للعمل بها مثال: مكي عباس د. بعشر ، كمال حمزة، د. ابوسن، القاضي شدو وغيرهم كثر لم تسعفني الذاكرة الصدئة بأسمائهم .. وحكي لي شقيقي سر الختم الخليفة، «رحمه الله» عندما كان رئيسا لوزراء حكومة اكتوبر ان طلب منه الفريق ابراهيم عبود رئيس الدولة آنذاك، وبعد تنحيه عن الحكم، ان تتبنى الحكومة تكملة بناء منزله بالعمارات على ان تخصم تكلفة?البناء من معاشه الشهري وقد كان ، وكان قد شرع في بناء المنزل بسلفية من الدولة، تقدم بمنحها له من وزارة المالية التي وافقت على منحه السلفية على ان تخصم من راتبه وقد كان.. فهذا هو سلوك من تبوأ منصبا دستوريا او تنفيذيا في العهد الذهبي للخدمة المدنية..! ولكن دارت عجلة الزمن، فنبضت انفاس الخدمة المدنية، وغابت شمسها ووئدت معاييرها، عندما انهالت عليها السياط من كل حدب وصوب في الحقب التاريخية، الوطنية المتلاحقة، وكادت ان ترتمي في احضان الردى! .. ولكن رغم ذلك نحن متفائلون optimistic بعد ان كاد الزلزال ان يقتلع جذورها المتينة.. نحن متفائلون بوعد الرئيس باعادتها لسيرتها الاولى، وسيستقيم عودها وتجتاحها رياح التطوير والتحديث ، وتعُمنا يومذاك غمائم الفرح وكيف لا وبلاد تزخر بالشوامخ من الرجال النبلاء. حدثني احد منسوبي بنك المزارع بالخرطوم ان امرأة مسنة جاءت تطلب مقابلة المدير العام (سليمان هاشم محمد توم) ليجود عليها بحفنة من مال يزيل كربتها، ويكفكف دمعها.. فنزل المدير من طابقه الثاني تدفعه مشاعر العطف والحنان فدس في كفها المهتريء قبضة من الاوراق فأنفرجت اساريرها .. وحدثني المنسوب للبنك بأن الكل يثني على المعاملة الحضارية التي يجدونها من رئيسهم هذا.. كما يشيد به عملاء البنك لنزاهته وصدقه.. ألم اقل ان بالسودان بعض الرجال، الذين مازلنا نضعهم في حدقات العيون..؟!!! ويذكروننا بالسلف الصالح..؟!! فه? انموذج نادر يحتذى... فهذه ومضة سنعيش على اشراقها، حتى يُقوّم أولو الامر مسار الخدمة المدنية العامة، وتعود مشرقة متألقة ويوضع الرجل الامين القوي المناسب، في المكان المناسب.. وفق المعايير التي ذكرتها في صدر مقالي هذا..! وآمل ان يجد وعد وأمل الرئيس الاستجابة الفورية من الجهات المعنية.. ونأمل ألا يندثر الوعد، ويلوذ بوادي الصمت كما اعتدنا.. ولي عودة... والله المستعان.. حسين الخليفة الحسن ٭ خبير تربوي