٭ الاسبوعان الفائتان وبمناسبة يوم المرأة العالمي وعيد الام، ساقني اجترار الذكريات الى سجن النساء بام درمان في مطلع عام 1002م، وأشركتكم معي في تأمل صور وحالات وجدتها هناك، وأنا اقضي جزءاً من عقوبة اوقعتها علىّ المحكمة في قضية نشر شهيرة أيام رئاستي لتحرير صحيفة «الرأي الآخر» واليوم استكمل باقي الصور لحالة اللائي يجدن أنفسهن خلف القضبان في جرائم قد تسوق إليها الظروف أو أخطاء البشر. ولكن محل القضية هو حالة الأطفال الذين يجدون أنفسهم مع أمهاتهم دون ذنب جنوه ولا خطأ اقترفوه. ٭ كانت تقضي جل وقتها في العمل.. يقف إلى جانبها بعض الأطفال يتابعون حركة عملها في صناعة «الطباقة».. تختار الالوان بذوق جميل تستبدل «السعف» باكياس النايلون الملونة.. اقتربت منها سألتها تجاوبت معي لكنها سألتني في الأول عن سبب وجودي معهن داخل السجن.. لكنها لم تقتنع بما قلته لها، ومع ذلك ردت على سؤالي قالت: كان في شكلة في البيت.. كانت خالتي معنا في الشكلة أنا دفرتها وقعت وديتها المستشفى بقت كويسة ولكن ماتت بعد شهرين اشتكوني.. قالوا أنا السبب عشان كده أنا هنا.. عشان دية والدية كثيرة ما في زول يدفعها.. أنا زعلانة عشان خالتي ماتت.. وأنا زعلانة أكثر عشان أنا في السجن. ٭ ذهبت إلى الماسورة لأتوضأ.. لقيت شابة صغيرة افسحت لي المكان وحيتني في بشاشة وسألتني اسمك منو... قلت لها آمال.. نظرت الى طويلاً وقالت لي أنا حنان.. أنا حنان قاتلة الأطفال.. اتذكرونها انها قتلت حوالي تسعة اطفال.. تقضي عقوبتها في السجن وتتلقى علاجاً بمستشفى التجاني الماحي.. وتغني وترقص وتصنع لنفسها «الجوارب من الملابس القديمة» ولا تريد ان تتحدث عن نفسها على الاطلاق تتابع التلفزيون وتحتفي يومي الجمعة والأحد بالاحتفال الذي يقام بمركز شباب ام درمان. ٭ أول يوم أحد قضيته بالسجن لفت نظري أن بعض النزيلات تزين وارتدين احسن ما عندهن من فساتين وثياب.. وعندما لحظت «ث» التساؤل في ملامحي قالت لي اليوم الأحد ومركز شباب ام درمان القريب من السجن يقيم حفلاً يمتد طويلاً، وبعض النزيلات يحتفلن معهم على طريقة «رائحة الشواء التي قرأنها في المرحلة الاولية، وضحكت ولما سردت تلك الظاهرة للزميل الشهيد محمد طه رئيس تحرير «الوفاق» كتب عنها، وقال إن نزيلات سجن أم درمان يرقصن على رائحة الشواء. وعموماً حالة حنان تحتاج الى دراسة أكثر لتجد إجابة على عدة تساؤلات.. هل هي مجرمة؟ هل هي مريضة؟ ام ماذا؟ ٭ بهذه المناسبة أسوق الخبر الذي ورد في صحف التاسع من مارس 1002م حول محاكمة أب وأم بلجيكيين بتهمة الاهمال في تربية أطفالهما بعد أن قامت صديقة الأسرة بشكوتهما، وقالت إن صديقتها وزوجها دأبا على وضع الرضاعة في كأس الخمر واعطائها للطفلة حتى تكف عن البكاء، وأيضا يتعمدان توجيه دخان سيجارة المخدر نحو وجه الرضيع حتى يروح في نوم عميق.. وكانت عقوبتها بالحبس أربع سنوات مع وقف التنفيذ، بعد مراعاة ما ذكره محامي الدفاع الذي قال انهما يعانيان من مشاكل نفسية بسبب الاعتداء الجنسي الذي تعرض له كلاهما في فترة طفولتهما من أبويهما، وطالبت المحكمة بضرورة ذهاب الابوين الى اختصاصي لتلقي العلاج اللازم. ٭ عدد كبير من النساء والأطفال يمارسون حياتهم خلف أسوار سجن أم درمان للنساء.. كل واحدة من هؤلاء النسوة تشكل قصة كاملة من قصص الجانب الآخر من حياة المرأة.. جانب التجاوز.. جانب الاسقاطات السلبية لحراك الحياة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية.. نعم جانب التجاوز ولا اسميه جانب الجريمة.. ذلك لأن فهمي للجريمة لا يخرج عن مفهوم الإنسان اللغز.. الانسان اللغز المحير والمعقد.. وأظنه سيستمر هكذا إلى أن يرث الله ومن عليها. ٭ لكن تبقى السجون، ويبقى العقاب، ويبقى المجتمع في حراكه، ويبقى الانسان ذلك اللغز لا يستطيع ان يمارس الحياة كما تمارسها الحيوانات.. انه يعبر ويبدع ولو كان حبيساً خلف الأسوار، ومهما كبر حجم الجريمة وإن وصلت حد القتل. ٭ ظللت أتلقى الدعوات لحفلات الوداع التي تقام لصاحبات الأحكام القصيرة «الخمور البلدية» والمشاجرات وكشات النظام العام خدش حياء المجتمع.. الحفلة تحييها فنانات من النزيلات، والأغاني ايضا من تأليفهن، والآلات الموسيقية من اختراعهن.. أغطية زجاجات البيبسي التي تنظم في شكل عقد وتوضع في فندق البن لتأتي بالنغمات أثناء عملية سحن البن. ٭ هناك أغنية طويلة اسمها «سجن أم درمان» تحكي بصورة واضحة حالهن ويرددنها في نشوة وفي صوت خافت.. يقول أحد كوبليهاتها: ّآه من سجن أم درمان آه من عقده التمام قعدونا خمسات وأدونا لحمات ٭ وأغنية أخرى طويلة تتحدث عن «الكومر» الذي يداهم محلات صناعة الخمور، وتصف الرحلة من هناك الى المحكمة ثم الى السجن. يا سائق الدفار مكتوب عليه «زد.. واي» يا بنية ما تبكي كل شيء قسمة يا سائق الدفار مكتوب عليه «باى.. باي» يا زولة ما تبكي كل شيء قسمة ٭ وأثناء الفواصل تأتي الطرائف والقفشات.. نشبت معركة صغيرة في عنبر «الاستقبال» أو بلغة السجن المدد القصيرة وسببها بسيط للغاية.. لكن الطريف أن احداهن شتمت زميلتها بأنها مترددة سجون وبائعة عرقي.. فالتفتت الأخرى في غاية الاستغراب والدهشة، وقالت لي اسمعي يا استاذة.. تقول هي جايبنها في بيبسي بالله عليك اكتبيها في الجريدة وقولي نحن كان لقينا شغلة ثانية الجابرنا على التلتلة دي شنو.. ضحكنا وواصلنا سماع موسيقى الفندق وباقي الأغنيات. ٭ نسيت أن أقول إن هذه الحفلة كانت لوداع «م» طالبة الثانوي التي قضت مدة عقوبة صغيرة بعد أن اعترفت بانها هي التي تسوق «العرقي» حتى لا تدخل أمها السجن وينقطع مصدر الرزق الوحيد لاسرة تتكون من سبعة اطفال ووالدتهم بعد أن توفى الوالد. ٭ كتب الأخ الزميل الراحل حسن أحمد التوم مقالاً بصحيفة «الخرطوم» يوم 42/2/1002م، بعنوان «المرأة والسجن» تحدث فيه حديثاً مشوقاً عن هذه المؤسسة العقابية، وقال عنها إنها قد تبنى في معظم الدول قبل أن يبنى قصر الحاكم، وكثير من قصور الحكام قد تبنى بسواعد القابعين خلف الأسوار. ٭ وكانت المقالة سياحة تأملية لتاريخ السجن ولأشهر الذين سجنوا، ووقف بصورة خاصة عند سجن المرأة وقال «مرت هذه الخواطر المرهقة بذهني بينما كنت في صحبة فاضلة في طريقنا إلى سجن النساء بأم درمان لزيارة السيدة الفاضلة آمال عباس زميلتي لأكثر من ثلاثة عقود في مسرح النكد هذا، وأحسب أن سجن النساء هذا ويوم ان قامت بناياته وتجمعت تقاليده وصيغت، تم كل ذلك في حجم نزيلاته يومئذٍ، وكن من اليانعات والناشذات والناشطات في الظلام.. اما وقد تغير الحال بعد أن احتلت المرأة نصف مقاعد الرجال الا قليلا في معاهدنا العلمية وفي دواويننا وجامعاتنا وفي كل حركة المجتمع، وبعد أن أصبحت المرأة ذات صوت في أسوار السلطة وبين اسوار المعارضة.. وبعد أن هتك الحراك السياسي والحراك الايديولوجي حصانة المرأة التقليدية وأمست تساق الى السجن في قضايا الفكر واحتكاكات السياسة». ٭ وخلص الزميل حسن أحمد التوم الى قوله: «للنزيلات كما نعلم خصوصيتهن اليومية كمرضعات، وخصوصيتهن اليومية كحمل، وخصوصيتهن الشهرية كنساء.. ونحن أمام أمرين، إما أن نرفع من قدر هذا السجن حتى يليق بكرامة هذه الشرائح من سجينات الفكر سجينات السياسة وسجينات الضمير ما دام العراك السياسي الايديولوجي قائم، وإما أن نعتمد سجن هذه الشرائح في بيوتهن لتقضي المرأة ايام سجنها وفق القانون تحت سقف البيت بتعهد من أهلها أو بحراسة نسائية لائقة. ٭ نحن لسنا من العاملين والداعين إلى هدم السجون كل السجون، ولكننا من المدافعين عن كرامة المرأة وعن أمومتها وخصوصيتها، لأننا جزء منها، ولأنها الأصل». ٭ ناقشت يومها ما جاء في مقالة الأخ حسن، وقضية الأطفال داخل السجون مع أمهاتهم، ومفهوم السجن في حد ذاته وسجن المرأة في بيتها إذا كان السجن في إطار العراك السياسي والايديولوجي.. وعموماً مثل هذه القضايا ستظل محل نقاش ومداخلات على مدى الحياة.. فالشرط النسوي بكل جوانبه يستاهل التناول والمناقشة.. ورحم الله الزميل الأخ حسن أحمد التوم.