نسيم ساخن حتى تكاد تشعر بأنه صلب والرائحة المميزة لوقود الطائرات سيكونان إنطباعي الأخير عندما أغادر الخرطوم الأسبوع المقبل. مغادرة مكان ما دائماً ليست بالأمر السهل و لكنها للدبلوماسي تشكل جزءً من الحياة إلى حد كبير.أما بالنسبة للعديد من الناس في السودان فالمغادرة تجربة صادمة، فبينما أكتب الآن، أصبح الجنوبيون أجانبَ في مكان كان في السابق بلدهم. بعد مرور تسعة أشهر على إنفصال الجنوب في التاسع من يوليو 2011 فإن لدى ترف الشعور بالحزن اللذيذ للفراق بينما عشرات أو مئات الآلاف من الجنوبيين ليس لديهم هذا الترف. خيارات صعبة وطريق شائك و مستقبل غير معلوم هو مصير العديد من الذين قيل لهم إنهم ليسوا سودانيين بعد الآن. أعتقد أن هناك قلة قليلة في الخرطوم تلتقي في الآراء المتطرفة و الباعثة على الكراهية التي يتم التعبير عنها في إحدى الصحف اليومية هنا - و بالتأكيد هم ليسوا من الذين سرّني أن أقابلهم وأعمل معهم. بالنسبة لهؤلاء الأخيرين لا ينتهي كرم الضيافة السودانية عند حد الترحيب بوصول الناس، بل يمتد حتى اللحظة التي يغادرون فيها. في السفارة نظم زملاؤنا السودانيون حفلاً الأسبوع الماضي لوداع زملائهم الجنوبيين المغادرين. وقد تم تنظيم مثل هذه الحفلات في جميع أنحاء السودان حيث تختلط الكلمات الدافئة بإحساس مشترك بعدم التصديق : هل هذا يحدث حقا؟ من حسن الحظ أن نظام التأمين الإجتماعي في السودان قوي و محايد ويشكل نموذجا للعديد من البلدان النامية حيث قام بسداد كامل إستحقاقات جميع زملائنا المغادرين من السفارة عن سنوات خدمتهم فأصبح لدى المغادرين جنوباً على الأقل ما يبدأون به حياتهم الجديدة. خلال الفترة التي تقارب العامين في الخرطوم، ظل التغيير سمة مميزة لحياتي وعملي: الإستفتاء في يناير 2011، الإستقلال في يوليو و ما تلى ذلك من خلاف وصراع ، الثورات في مصر وليبيا وتونس واليمن وسوريا وأثرها المحتمل على السودان، دورة الهبوط في الإقتصاد السوداني وآثارها على الناس العاديين، التغيير في الحكومة في السودان الذي غيَر - أو لم يغيَر- المشهد. خلال وقت التغيير يغدو للإتساق أهميته. لقد حاولت جهدي أن أنقل كيف ترى حكومة المملكة المتحدة الأمور في السودان وما هى سياستنا. إنتقد البعض إنفتاحي بينما رحب به آخرون. كثيراً ما أقول إن السياسة الخارجية ليست ملكاً لقلة متميزة. في القرن الحادي والعشرين، فإن العلاقات بين الدول هي أكثر بكثير مما يحدث في الغرف المغلقة بين المسؤولين والدبلوماسيين. تحتاج بعض الأعمال قدراً من السرية والتكتم ولكن أغلبها لا يتطلب ذلك. سلوني ما الذي تحاول المملكة المتحدة القيام به في السودان وسأقول لكم: بناء السلام والحد من الفقر. لقد كان وزراؤنا واضحين جداً فيما يتعلق بالسمات المميزة لتعاطي المملكة المتحدة مع السودان: إنها سياسة طويلة الأجل ومتنامية وليست متراجعة، متوازنة توازناً دقيقاً عندما يتعلق الأمر بالسودان وجنوب السودان (نريد للدولتين أن تكونا مستقرتين وقابلتين للحياة) ، تقوم على مبدأ شراكة داعمة (نريد العمل مع ومن خلال المؤسسات السودانية قدر الإمكان)، و تركز على الحاجة للتغيير الآن حتى تكون جاهزة للمستقبل. هناك تحديات إقتصادية و إجتماعية وسياسية هائلة قادمة في الطريق. لقد بدأ المستقبل بالفعل. السودان بلد حضري يشكل الشباب معظم سكانه و يعاني البطالة بطريقة تختلف عما كان قبل بضع سنوات. هذا الإتجاه يتنامى ولا يتراجع. التاريخ والأحداث الجارية في المنطقة تبين أن السبيل لمواجهة مثل هذا التحدي هو تمكين الشعب - إقتصادياً وسياسياً. إن وجود حكومة قابلة للمساءلة بصورة كاملة من قبل شعبها وممثلة له مع سيادة القانون وتوفير مناخ جاذب للتجارة الإستثمار هي العناصر التي أثبتت نجاحها فى مواجهة مثل هذه التحديات. العمل في سفارتنا يركز على المستقبل- الأجيال القادمة والإنتخابات المقبلة ،ولكننا كذلك نتعاطى مع القضايا الحالية: دعم الرئيس مبيكي في بحثه الدؤوب عن السلام في المنطقة، مساعدة حكومة السودان و بروفيسور قمباري لتضميد الجراح في دارفور، وتشجيع الإصلاح والنمو الاقتصادي لتوفير فرص العمل للناس (تظهر آخر الأرقام المتاحة أن التجارة بين المملكة المتحدة والسودان قد زادت بنسبة 20 % في عام 2010، و الاستثمار بدأ أيضا فقد شهدت يوم الأحد الماضي إفتتاح مصنع جديد للأدوية مملوك لشركة في المملكة المتحدة). غالبا ما يُسأل السفراء المغادرون إذا ما كانوا متفائلين. أنا دائماً أقول إنني متفائل - فالسودان لديه الكثير في صالحه مما يجعلني واثقا أنه في السنوات القادمة سيلعب الدور الكامل والإيجابي الذي ينبغي أن يقوم به كثالث أكبر دولة في أفريقيا تنعم بالموارد الطبيعية والبشرية، غنية بتنوعها وقوية بهويتها العربية الأفريقية المتفردة. ولكن دائما و أنا أقول ذلك يتملكني الخوف. سيكون ذلك هوالمستقبل أنا متأكد. ولكن السؤال هو: ماذا يمكن أن يحدث بين الآن والمستقبل؟ ما أخشاه هو إحتمال أن يحدث التغيير في السودان بشكل فوضوي وعنيف و بطريقة تزعزع الإستقرار في البلد والمنطقة. لا يحتاج أن يحدث الأمر بتلك الطريقة حيث أن التغيير المُتحكم فيه يمكن أن ينجح لكنه يجب أن يبدأ الآن. إن قادة السودان وأهله هم المنوط بهم تقرير مستقبلهم و أتمنى وأنا مغادر أن يختاروا فتح فضاء وحوار سياسي حقيقي وأن يستفيدوا من المواهب و أن لا يقمعوا الأصوات المخالفة، و أن يكون السودان قوياً كبلد و لكن ليس بطريقة وحشية . و أينما توجد حرب- من أجل مصلحة الجميع- ينبغي أن يكون الهدف وقفها - وليس كسبها. منذ كتابة هذا المقال، قامت قوات جنوب السودان بإحتلال منطقة هجليج. الإتحاد الأفريقي دعا إلى أانسحاب فوري وغير مشروط و ضمّت المملكة المتحدة صوتها إلى تلك الدعوة. أيام مظلمة ومرة أخرى هناك حاجة لضبط النفس وروح القيادة. إنني أحث كلا الرئيسين على الإستماع إلى الرئيس مبيكي. دعوا الإتحاد الإفريقي يقودهم إلى الإستقرار و السلام. أتوجه بالشكر إلى السودانيين على كرم ضيافتهم الفياض... مع السلامة. ٭ السفير البريطاني في الخرطوم