تعودنا من حكومة الأنقاذ أنها كلما ضاقت حولها حلقات الحصار الاقتصادى نجحت فى التسلل خارج دائرته، وتمكنت من ايجاد بدائل اخرى واستغلال الموارد غير المتاحة، على نحو ما فعلته فى التسعينيات القرن الماضى بحفر باطن الارض باظافرها لاستخراج البترول فى ظرف حصار اقتصادى بالغ التعقيد، وفى المقابل كلما توفرت لها الخيارات لتوسيع مواعين الموارد الحقيقية تكاسلت واستلقت على عائدات البترول، وتضخمت جيوبها الخلفية وانتفخ بطنها بالصرف الادارى على نحو ما قامت به الحكومة الكادحة التى فكرت فى مطلع التسعينيات فى حفر ترعة كنانة بأنيابها، وعندما وجدت اموال بترول الجنوب تجاهلت الترع وقنوات الرى وقطاعات الصناعة والزراعة والثروة الحيوانية، مهدرة بذلك جهدا ووقتا واموالا فى بناء مواعين ايرادية لا تمتلك فيها سوى الطلاء الخارجى. ولحسن الطالع فإن التوجه الجديد للدولة نحو الموارد الزراعية وقطاع الثروة الحيوانية بعد انفصال الجنوب وخروج بتروله من الموازنة العامة، يأتى فى ظل بناء مشروعات بنية تحتية تتمثل فى بناء ثلاثة سدود هى سد مروى وسدى اعالى نهر عطبرة وستيت، بالاضافة الى تعلية خزان الروصيرص، قامت بتنفيذها وحدة تنفيذ السدود التى لا يتناسب اسمها مع الانجازات الخارقة التى انجزتها، ومازالت وزارة السدود تعمل بقيادة ربانها الماهر الوزير أسامة عبد الله فى صمت من اجل اضافة المزيد من البنية التحتية لتطوير القطاع الزراعى وتوليد الطاقة الكهربائية بأيدٍ سودانية تعمل بهمة واخلاص مع الشركات المنفذة فى نبش ما قرأنا عنه فى كتب التاريخ والجغرافيا، وتحيله الى واقع ملموس ومستقبل أخضر لوطن اراد قادته طلاءه باللون الأسود. حيث سبق لوحدة تنفيذ السدود كما هو معلوم، إنجاز مشروع القرن سد مروى الذي ساهم فى استقرار امداد التيار الكهربائي بالبلاد والتوسع فى القطاع الزراعى رأسياً عبر المشروعات التي تشرف على تنفيذها هيئة تطوير الزراعة بوحدة تنفيذ السدود بمناطق المتأثرين بزراعة محصولات نوعية، ساهمت فى استقرار المنطقة ورفدت الدخل القومى بالعملات الصعبة. وفى شهر مايو المقبل سيتم إنجاز حلم ظل يراود الشعب السودانى منذ عام 1966م، وهو مشروع تعلية خزان الروصيرص الذى سيضيف 60 ميغا واط من الطاقة الكهرباء تضاف الى ما ينتجه الخزان من طاقة كهربائية، بالاضافة الى ان تعلية خزان الروصيرص ستوفر ارضي زراعية بمساحة اربعة ملايين فدان تروى عبر ترعتى الدندر وكنانة. وحكى لى أحد المنهدسين القدامى أن مدير الشركة الايطالية المنفذة لخزان الروصيرص فى حفل افتتاح الخزان، عرض على رئيس الوزراء حينها اسماعيل الازهرى الاستفادة من الآليات التى كانت تربض فوق جسم السد واستكمال التعلية مقابل عشرة ملايين جنيه استرلينى، وقال لى المهندس أنه شاهد السفير المصرى فى الخرطوم الذى كان يجلس بجوار رئيس الوزراء السودانى يهمس فى اذن الازهرى، بعدها اعتذر الأزهرى فى خطابه عن عرض الشركة المنفذة لاستكمال المرحلة الثانية بحجة عدم توفرالاموال، واعدا باستكمال المشروع بعد عشرة أعوام، وقال لى المهندس إن مدير الشركة عندما علم رد الازهرى على عرض الشركة الذى قدمته مساعدةً للسودان رمى بأوراق كان يحملها فى يده وغادر غاضباً موقع الاحتفال. وأوضح المهندس ان السودان حينها لم يكن يعاني ديوناً خارجية، والآن بعد مضى قرابة «46» عاماً تمت التعلية بتكلفة بلغت قرابة مليار دولار، وإذا ما صحت هذه الرواية فإن هذا الأمر يعكس نهجنا فى اهدار الفرص السهلة. أيضا فى عام 2014م سينتهى العمل فى سدى ستيت واعالى نهر عطبرة الذى يجرى العمل فيه الآن، وتم انجاز 17% منه حسب افادات وزير الكهرباء والسدود أسامة عبد الله فى تصريح صحفى سابق، وهو ايضا من المشروعات الاستراتيجية المهمة التى ستساهم فى دعم الاقتصاد الوطنى واحداث تغير تنموى كبير بالمنطقة، حيث سينتج سد ستيت 320 ميقاواط من الكهرباء، بالاضافة الى توفير مشروع ستيت الزراعى المقترح بولاية كسلا مليون ومئتي الف فدان من الاراضى الصالحة للزراعة، بجانب زيادة الرقعة الزراعية بمشروع حلفاالجديدة، لتصبح بذلك جملة المساحات التى ستضيفها هذه السدود الى الرقعة الزراعية حوالى ستة ملايين فدان، بجانب المساحات الموجودة أصلاً فى المشروعات الزراعية الكبرى بالبلاد، مثل مشروع الجزيرة والقاش وطوكر وغيرها من المشروعات الزراعية بالبلاد، ويمكن ان يستفاد من جزء من هذه المساحات فى تطوير قطاع الثروة الحيوانية وإقامة مشروعات نموذجية لتسمين وتربية الماشية، وهذا يمكن ان يتم فى المشروعات الجديدة مثل مشروع ستيت الزراعى المقترح بولاية كسلا. واعتقد ان استثمار مشروع ستيت الزراعى فى مجال قطاع الثروة الحيوانية وجعله مشروعاً نموذجيا لتربية الماشية سيعوض السودان ما فقده من عائدات النفط بسبب انفصال الجنوب، حيث يمكن للمشروع استعياب اكثر من اربعة ملايين رأس من الماشية، كما ان الاستثمار فى مجال الثروة الحيوانية يحمل قاطرة من الفوائد الاقتصادية للاقتصاد الكلى للدولة تتمثل فى توفيرالعملة الصعبة من خلال مساهمة صادر الثروة الحيوانية، بالاضافة لفتح الباب امام صناعات اللحوم والجلود والالبان وصناعة العلف، بجانب خلق وظائف للخريجين وتوفير اللحوم للاستهلاك المحلى. ويعتبر مشروع ستيت من المشروعات الجاذبة للاستثمارات الاجنبية نسبة لوقوعه بالقرب من ميناء بورتسودان بمحاذاة الطريق القومى الخرطومبورتسودان، بالاضافة الى توفر الجوانب الأمنية وتوفر الايدى العاملة التى لها خبرة كبيرة فى تربية الماشية. ولكن بالرغم من أن دخول الاستثمارات الأجنبية خاصة فى قطاعى الزراعة والثروة الحيوانية ذات أهمية خاصة فى الظروف الحالية للاقتصاد السودانى، إلا أن دخول الاستثمار الأجنبى للسودان بغرض تصدير المنتجات الزراعية الأولية موضوع يستحق البحث والتمحيص، وذلك بغرض التأكد من أن هنالك منفعة استراتيجية للاقتصاد السودانى من هذه الاستثمارات على هذا النحو. وفى ظل غياب صناعات وطنية تستوعب كميات كبيرة من المنتجات الزراعية والحيوانية، بجانب عدم انضمام السودان لعضوية منظمة التجارة الدولية، وفى حين تتمتع الدول التى تأتى منها هذه الاستثمارات بالعضوية فى المنظمة الدولية، لا أتوقع أن تكون هناك فائدة كبيرة للاقتصاد السودانى من استثمار أجنبى يأتى بغرض تصدير المنتجات الزراعية والحيوانية الاولية على الأقل فى المدى المتوسط والبعيد كذلك، بل يمكن القول إن الاقتصاد السودانى، خاصة الصناعات الوطنية القائمة على المنتجات الوطنية، سوف يتضرر من هذه الاستثمارات فى المستقبل. إنتاج المستثمر الأجنبى سلع زراعية وحيوانية وتصديرها خارج السودان سيقفل الباب أمام المنتج والمصدر السودانى الذى يعتمد على نفس هذه الأسواق، بل ستتضاءل فرصه التننافسية فى الأسواق الإقليمية الأخرى نسبة للإمكانات التى يتمتع بها المستثمر الأجنبى من تحسين للمواصفات المطلوبة وامتيازات عضويته فى منظمة التجارة الدولية. كما يمكن أن يقوم المستثمر الأجنبى بإعادة تصدير هذه المنتجات للسودان وهى مصنعة أو شبه مصنعة فى بلده لمنافسة الصناعات الوطنية فى عقر دارها ومن ثم القضاء عليها. علماً بأن إحدى الدول العربية التى تعتبر من أكبر المستثمرين فى قطاعى الزراعة والثروة الحيوانية فى السودان، أهم استراتيجياتها الاقتصادية تعتمد على تقوية صناعتها القائمة على المنتجات الحيوانية والزراعية، الأمر الذى جعل صناعتها فى هذا المجال قوة إقليمية صاعدة، مما يرشح انتزاعها من السودان فى المستقبل القريب شعار «سلة غذاء العالم العربى». وتجارب دول أمريكا الجنوبية وإفريقيا توضح أن اقتصادات الدول المضيفة للاستثمارات الأجنبية فى المنتجات الأولية لا تتطور مهما تضاعف حجمها، لأن إضافة قيمة تصنعية لنفس المنتج خارج ذلك البلد ستزيد قيمته أضعافاً مضاعفة، وإذا تمت إعادة تصدير المنتج المصنع للبلد الأصل سيكون الميزان التجارى فى صالح البلد المصنع. إذاً المصلحة الاقتصادية للسودان تقتضي تشجيع وتحفيز الاستثمارات الأجنبية للتوسع فى إنتاج المنتجات الزراعية والحيوانية، وفى نفس الوقت للتصنيع داخل السودان. وإذا لم يتم ذلك لن يكون ميزان المصلحة الاقتصادية فى صالح السودان، بل ستكون الفائد الاقتصادية للسودان أقرب لتلك التى كان يحققها فى خمسينيات القرن الماضى، عندما تنتج المشروعات الزراعية فى السودان القطن لتغذية مصانع النسيج فى بيرمنجهام. [email protected]