فرح غامر قد داخلني الى حد التوهج حينما رمح مضيئا امام عيني اسم عثمان محمد الحر وموسوعته تراث المسيرية الشعبي وعربية لهجاتهم فقرأت بنهم الجائع وتحرق المنتظر وشوق الهائم التعليقات والشروح والطرائف والملح والمخاطبات والاضافات التي جاد بها الاعزاء المساهمون صديق عيسي صالح عبد الرحمن طبيق حامد شارف عبد الرسول حافظ عبد النبي كبر ضحية إبراهيم أحمد جمعة فضل الله خاطر بريمة محمد الطيب رحمة قريمان مطر قادم إبراهيم الصغير حماد الطاهر عبد الله محمد خليل. ورغم ولع وتعلق كاتب هذه السطور بالموروث الشعبي على مستوى الاهتمام والمتعة وليس البحث والدراسة، اذ يحمل الموروث بتلقائية روح الشعوب وابداعها العفوي وهويتها الباطنية وتجربتها الحياتية ومعارفها وحكمتها دون استلاب او مراوغة او تزييف مع شغف خاص بالموروث الكردفاني وافتتان بالطرائق التي ينطق بها حَمَر والحُمُر والبقارة والابالة عموما والبديرية والجوامعة وزنارة وميما الحروف والكلمات والجمل نداءً وإدغاماً وترخيماً وقلباً ومزجاً وتحويراً ونحتاً وسكاً وتصويتاً ولا يكترثون في ثنايا كل ذلك الي منِشأ الكلمة أو الجملة أو أصولها وروافدها، قدر اهتمامهم بكمال أدائها لوظيفتها ببيان وايقاع يناسب المقام. رغم ذلك الولع وذلك العنوان المثير «تراث المسيرية الشعبي»، فإن الذي هزني بقوة واشعلني أكثر من اي شيء آخر، هو اسم المؤلف عثمان محمد الحر زميلي وصديقي منذ أيام الطلب والدراسة تحت أشجار اللبخ والنيم الوارف في المرحلة الوسطى بمعهد النهود العلمي 1954 1958م. ولم تكن صلتي بعثمان محمد الحر تقتصر على لقاءات الدرس على يد شيوخنا الأجلاء الشيخ عباس الفكي علي الشيخ الفكي كرسي الشيخ أحمد عبد الجبار الاستاذ الشاعر عبد الحق احمد الازهري الاستاذ مستمهل ماكن الاساذ آدم سليمان الاستاذ صالح شنكل الشيخ صديق عمر الإمام الاستاذ مدثر اسماعيل البوشي الاستاذ الزبير عبد اللطيف والاستاذ محمد سليمان «دنيا دبنقا» الذي يسهم احيانا مع صفيه الاستاذ الزبير عبد اللطيف أستاذ العلوم الحديثة في تدريسنا اللغة الانجليزية، ونطلق علية احيانا «محمد كنيسة» لأنه في الاصل استاذ اللغة الانجليزية بمدارس الكمبوني بالنهود، ويأتينا زائرا فيبهرنا بايضاحاته المثيرة وجولاته الجزلة التي لا نظير لها التي تطرد من اجواء المعهد العلمي المعبقة بالاجرومية والعزية واقرب وأسهل المسالك السكون والرتابة والملل وأحياناً النعاس. لقد كانت صلتي الشخصية بعثمان الحر ذات طابع خاص لها أبعاد وأغوار، فقد كان يطلق علي اسم الشاعر ولا اذكر ان ناداني باسمي المجرد، وقد صرت في نظر اقراني شاعرا بحق ما دام عثمان قد صنفني وميزني عنهم بوصفه وحفاوته بشعري. ولم يك فارق العمر بيني وبين عثمان يزيد على سنة او سنتين، ومع ذلك كان كل زملاءالفصل المشاغبين بحكم حركة السن التي لا يستقر لها قرار، يكنون لعثمان محمد الحر الوقور بالطبع الذي لا يتحدث كثيرا وإذا تحدث اسمع ولا ينغمس معنا في ضلالات الصبا الباكر ولا ينخرط معنا في نزق مناوشات وتقليد الشيوخ، يكنون له تقديرا ينبعث من احساس الصغار بأن عثمان يمت الي عالم اساتذتنا وشيوخنا الكبار على الرغم من انه يجلس معنا في صف واحد ويتحدث اللغة التي تروق لنا، ولا يخلتلف عنا الا بهدوئه وسمته، وتلك الهالة التي لم يسع اليها ولكنها أحاطت به رغم صغر عمره. وقد كان معنا من ابناء المجلد في ذات الفصل ولأربع سنوات رحمه الله خدام المغرم بالدعابة والفساد في الارض مثلنا «عبد الله حسين عبد الوهاب الحسن رقيق عبد الله محمد آدم «ابدا» محمد أحمد حمدان آدم دريبات حيمور حسن يوسف سالم سليمان محمد عجب علي تيراب عبد الله آدم حجير إبراهيم ادريس آدم حسن وكاتب هذه السطور» اما جبريل ومحمد ابناء الفكي خاطر وفضل الله الحاج من ابناء المجلد فقد كانوا في الصفوف التي تقدمت. وحقيق بالنظر أن قد ظل عثمان محمد الحر منذ أن التقينا به في السنة الاولى في المرحلة الوسطى1954م، مهموماً بتأصيل عامية المسيرية ملما بمعجمها غير المكتوب، اذ ما ان يقف على مثل شرود سائر أو على كلمة ذات ايقاع ورنين في شواهد النحو العربي مثل «قطر الندى وبل الصدى» أو في شذور الذهب او في قصائد الشعر العربي الكلاسيكي أو في رسالة ابي الحسن القيرواني أو في خريدة راجي رحمة القدير اي أحمد المشهور بالدرديري، فلا يهدأ له بال حتى يعثر على ما يقابل ذلك في لغة وأدب المسيرية الحمر المعاصر. وقد فاقنا وامتاز عنا عثمان الحر في ذلك الضرب من البحث باكراً، لكل ذلك فليس مفاجأة أو من الاعاجيب التي تولد دون لقاح وحمل أن تصدر لعثمان محمد الحر بعد اكثر من نصف قرن من زمان الصبا الاول موسوعة في تراث المسيرية الشعبي، ولكن العجب كل العجب ألا يفارقه ذلك الهم اللغوي الذي رافقه منذ الطفولة الباكرة، وأن يتحول ذلك الهاجس اللغوي في مجرى حياته الى غاية علمية تحثه على التنقيب في الجذور للتعرف على تشكلات الهوية وتجلياتها رغم الظروف والملابسات التي فرضت عليه ألا يواصل دراسته الاكاديمية. قد فارقنا عثمان محمد الحر بعد الجلوس لامتحان الشهادة الثانوية 1958م، فقد قبلنا بعد نجاحنا بالفاشر ولسبب أبعد من مداركنا، وقد قبل عثمان بالمعهد الثانوي بكريمة، وهنالك قد داهمه مرض عضال لازمه طويلا ونازعه بوحشية. ويبدو أن عثمان قد ارتأي أن تغيير البيئة قد يسهم في العلاج، فانتقل من كريمة الى الفاشر، وقد كلفه ذلك بضع سنين من عمره الدراسي، ولم يك عثمان غير مصيب، اذ توحد مرة أخرى مع رفاق الصبا «عبد الله حسين حيمور حسن يوسف عبد الوهاب الحسن سالم سليمان عبد السلام نور الدين». وقد كان من حسن طالع عثمان محمد الحر أن قد كان بالفاشر برمكيا فنجريا قديرا في حساب الدوبيا من أبناء المجلد يعمل في اعمال عبد القادر فضيل «جمبر» التجارية، وهو آدم جبريل القوني. وكان لآدم جبريل القوني حب يصل حد التوله بالثقافة والمعرفة والعلم. واضاف الى ذلك موهبة في التواصل الاجتماعي ورغبة أصيلة في تشجيع الطلاب الذين علي صلة به على مواصلة الدراسة وقهر الصعاب، فاهتم بعثمان كثيرا كاهتمامه بكل ابناء كردفان بالفاشر الثانوية الغربية والمعهد الثانوي الشرقية. لقد كان آدم جبريل القوني الذي يستحق لقب الاستاذ بجدارة أخاً اكبر ومعينا لا ينضب لنا جمعيا. ويبدو أن الترحاب والشهامة والهمة العالية والنجدة ميراث لا يفنى قد خلفه الفكي جبريل القوني لاسرته وذويه، وقد أكد لي الصديق الدكتور آدم بقادي اختصاصي الاعصاب في طب الاطفال بمدينة مانشستر الذي درس بثانوية الفاشر1964م، أن الاستاذ آدم جبريل القوني قد ظل على نبله معهم كدأبه معنا. وقد حكى لي والدي الفكي نور الدين حماد عبد السلام رحمه الله الذي تمتع بصداقة عمر مع الفكي جبريل القوني رغم تباعد الديار والاعراق أنه حينما يسافر الى نيالا لقضاء بعض اعماله التجارية يتفرغ عثمان جبريل القوني تماما له كل الوقت، ويتخلى عن عمله الاساس في اصلاح الراديو والتلفزيون، حتى يفرغ من تدبير شأن والدي وفاءً لتلك الصداقة بين الوالدين. وقد كان الاستاذ آدم جبريل القوني الشجرة الظليلة التي وقت عثمان محمد الحر شواظ المرض اللعين في الفاشر. والتقيت بعثمان محمد الحر لآخر مرة بالنهود 1973م، حيث كان في مكتب التعاون، وقد سعدت أن أراه بصحة جيدة، ولم يمنحنا ضيق الوقت وعجل التسفار ان نجلس لنستعيد ذكريات الصبا ومراتع الشقاوة في رمال النهود. ومرة برحت دار أهلي إن صدور كتاب عثمان محمد الحر تراث المسيرية الشعبي خبر سار بكل المقاييس للعديد من الاطراف وفي مقدمتهم زملاؤه وأساتذته الذين مازالوا على قيد الحياة ولأهله ولابناء اقليم المجلد وكردفان وكل السودان، اذ يحمل الكتاب خلف سطوره وفوق قيمته العلمية الرائدة في حقل يفتقر الي البناء الاساس يحمل مكابدة انسان يميل الى القصر في قامته نحيل الجسم قصير اليد بصير العين هده المرض، وقد قدم من فضاء خامل الذكر في سودان المستعمر، حيث اطلق عليه عبد الرحمن علي طه في عقد الاربعين من القرن الماضي في ارجوزته ذات الصيت آنئذٍ «بقعة تسمى بابنوسة». ومرة برحت دار اهلي ٭٭ لكي ازور صاحبي ابن الفضل وجدته واهله قد رحلوا ٭ من كيلك وفي الفضاء نزلوا في بقعة تسمى بابنوسة ٭٭ كي يتقوا ذبابة تعيسة ومع ذلك ورغم كل ذلك تغلب عثمان محمد الحر على مشاق السهول وقهر تحديات الجبال، وخاض منتصرا مهالك المستنقعات والبلهارسيا والذبابة التعيسة. وحقا قد عجزت كل العوادي التي ألمت بعثمان الحر من ضيق ذات اليد ومن مرض الم به ولازمه طويلا، عجزت كل ملمات السودان التي تتزاحم وتتدافع «كالذبابة التعيسة في الخريف» ولا تفارق حتي تقذف بالانسان في هاوية التلف والخسران، أن تفل من عزم عثمان الحر أو تنال من إرادته وتصميمه الحديدي. ومثل عثمان محمد الحر في المحافظة على الاتجاه والسير بدأب في تحقيق طموحات الذهن في بيئتنا الثقافية السودانية، جد قليل، ويستحق لذلك الاحتفاء والتقدير المادي والادبي من الزملاء والاصدقاء والاقليم والمجتمع والدولة. عثمان محمد الحر: من إعراب المفعول المطلق الى اعراب ثقافة المسيرية وإذا لم تخني الذاكرة التي اضحت اليوم غربالا للماء، انني قد سمعت لاول مرة المثل الوارد في ادب المسيرية الشعبي القائل: الفي الدبة بشوف البدبه من عثمان الحر في درس النحو عن المفعول المطلق، ونحن في السنة الثالثة أو الرابعة في المرحلة الوسطى حينما ورد شاهد شعري قديم لتبيانه يقول: زعمتني شيخاً ولست بشيخ ٭٭ إنما الشيخ من يدب دبيبا وأبان عثمان الحر لحظتئذٍ ان اللفظ دب الوارد في الشاهد الشعري يستخدم بذات المعني في عامية المسيرية، ثم اورد شاهده: الفي الدبة بشوف البدبه. ولعله قد اورد شواهد أخرى قد جرفتها عوامل التعرية من ذاكرتي التي صارت تدب دبيبا ايضا. ويبدو جليا ان عثمان قد خطا في كتابه بعيداً عن منحي الصبا والشباب الاول، وتخلى عن تلك المقابلات الحرفية بين العربية الفصحى قبل الاسلام وبعيده وعربية المسيرية المتداولة في حديثهم وفكرهم اليومى المعاصر، إذ أن نظرة فاحصة الى محتويات كتاب عثمان الحر كما اوردها الاستاذ حسن محمود الذي كما يبدو قد توفر واحسن قراءة كتاب تراث المسيرية الشعبي وتذوقه، وقدم لنا اهم محتوياته، تكشف لنا ان عثمان قد انتقل من هاجس البرهان على عروبة المسيرية الى البحث في بنية ثقافة مجتمعات الظعينة، لذلك اهتم بمتابعة مفردات تلك الثقافة من اسماء البقر والنباتات والاشجار والحيوانات الوحشية والطيور إلى اسلوب حياة المجتمع المسيري وثقافته وآدابه ورؤيته، كما تشير المحتويات التالية: ٭ أسماء الأبقار. ٭ اسماء النباتات والأشجار. ٭ اسماء الطيور والحيوانات الوحشية. ٭ الصيد وقتل الفيل والزراف. ٭ ألعاب الصبيان. ٭ تنويم الجدات للاطفال. ٭ الفوازير والاحاجي. ٭ الامثال الشعبية ومعانيها عرض لاكثر من الف مثل. ٭ الالفاظ المتداولة لدى المسيرية وتحليلها واصولها في العربية. ٭ البرمكة والبرامكة نماذج من اشعارهم في الشاي. ٭ ما يقال في الختان والزفاف والاعراس. ٭ أهم الشعراء الهدايين والشاعرات الحكامات لدى المسيرية الدريب البشاري والعاتول. ٭ المسيرية الهجرة والمسار والاستقرار والمجتمع. ضحية إبراهيم وإعادة طباعة التراث الشعبي للمسيرية انها لفتة بارعة وكريمة من الاستاذ ضحية ابراهيم ان يتكفل باعادة طبع التراث الشعبي على نفقته الخاصة بعد تصحيحه وتنقيحه «اما في ما يتعلق باعادة طبع الكتاب فأنا على استعداد تام لاعادة طبعه وتنقيحه، وهذا وعد منى بإعادة طباعته كاملة وعلى نفقتى الخاصة» وليس من الميسور دائماً أن يتوفر مثل هذا العرض السخي لتمويل موسوعة ضخمة كما وصفها الاستاذ حسن محمود الذي أشار في ثنايا عرضه للكتاب إلى الاخطاء المطبعية والاخرى التي تتعلق بهجاء الكلمات التي لا بد ان قد تعذر فهمها ورسمها على وجهها الصححيح على الناشر والمحرر. قد تفضل الاعزاء المساهمون بالتعليق والاضافات. إن الامثال والفوازير والعاب الصبية والاشعار وكثير من المفردات في حاجة الى شرح كما قد اشار الأخ حسن محمود «مجتمعات المسيرية وعموم أهلنا البقارة.. ولأنها وليدة بيئة خاصة ومحلية للغاية، فهي تحتاج بعض الشروحات» ليتسنى لأبناء الثقافة المسيرية والبقارية عموماً الذين ولدوا في مختلف المدن السودانية وقد انقطعوا بدرجات متفاوتة عن تلك البيئة المحلية ذات الخصوصية او في المهاجر أو ما يسمى بالدياسبرا، فهمها علي الوجة الصائب. ولما كانت اهمية كتاب التراث الشعبي لا تقتصر على ابناء الثقاقة المسيرية وحدها ولكنها تمتد لتشمل كل دوائر المتعلمين السودانيين والذين يعنيهم شأن التخطيط الثقافي والتراث الشعبي ومراكز البحث والمعاهد العليا، اضافة الى الباحثين غير السودانيين في مختلف اللغات والبيئات، فلا بد من توخي الدقة والايجاز في شرح المفردات مع صور ورسومات ايضاحية، متى كان ذلك متيسراً، للأشجار والحيوانات الوحشية والنباتات لكي نستبعد ذلك الخلط الذي يقع عادة بين عدم التطابق بين الاسماء وما تدل عليه لدى السودانيين والشعوب العربية، كالنبق والدوم والنمر والفهد والسمع والفول والتيتل والريل والايل والوعل والكداد والابنوس والخشخاش والخروب، وكثير من الالفاظ يختلف عليها الناطقون بالعربية الى حد التقابل بالتضاد، فشجرة النبق مثلا تسمى دوما وعلب بضم العين لدى اليمنيين، ولست على يقين تماماً أن السدر LOTUS «سدرة المنتهى الواردة في القرآن تقابل في الدلالة الدوم اليمني والنبق السوداني». ويسري ذلك الخلط على لفظ الفول (Peanut) اب صليبات زاد الفقير» البقل الفول المدمس الفستق فستق العبيد الفول السوداني الفول المصري الشامي حب العزيز. ولكل ذلك فإن الرسوم الايضاحية لا غنى عنها في تحرير هذا الكتاب المهم. المملكة المتحدة [email protected],uk