في كل بلدان العالم توجد تخصصية لكل شيء بحيث يستحيل ان يكون معتمد محلية او منسق منسقية هو الناطق الرسمي باسم الحكومة، او ينبري مثلاً طبيب أسنان ليحدث الناس عن الاقتصاد والاستثمار، او يدعي أحدهم بأنه مفتي الديار العالم بكل ابواب الفقه ليحل للحكومة اكل الربا، وقس على ذلك ما شئت من انواع التخبط و «الهبالة» منقطعة النظير، وبسبب من ذلك دعونا نتساءل عن من يضع السياسات الاقتصادية؟ من الذي ساق البلاد وراء التعامل مع العملة الاوروبية وربط اقتصادنا بها وفرض إجازة «السبت» من اجلها، وعطل عجلة التنمية لإرضائها، ثم عاد فجأة ليفرض على البلاد التعامل بالدولار والانصياع لحفنة من تجار العملة ليتحكموا في اقتصادنا بحيث تزيد اسعار الضروريات كلما زادت أطماعهم، وبحيث يعتقد الناس أن الاقتصاد بأيديهم يصنعون به ما يريدون من سياسات، وما على الشعب الا ان يصبح متلقياً وحقلاً للتجارب الغبية. لقد رأينا كيف انهارت الميزانية التي وضعها وزير المالية.. انهارت قبل ان يكتمل الربع الاول منها، ثم عاد ذات الوزير ليحدثنا عن ضرورة رفع الدعم عن الوقود، ثم يردعه البرلمان بصورة مسرحية، ثم يعود البرلمان ليقرَّ بعض من أعضائه بضرورة الاستجابة لمطالب وزير المالية، ثم يتعهد الوزير لمناديب البنك الدولي بأنه سيرفع الدعم عن الوقود مطلع العام المقبل، ثم تسري شائعة قوية بأن رفع الدعم عن الوقود سيكون خلال أيام، ثم ها هي الساعات الاخيرة من يوم الخميس الماضي تتكشف عن قرار صادر عن البنك المركزي هذه المرة يفيد بأنه اتخذ قراراً بتعويم الجنيه السوداني مقابل الدولار دون أن نسمع أية تفسيرات عن كيفية هذه المسألة وهذا التعويم ونوع الاصلاحات الاقتصادية التي يبشر بها. إن بلادنا تعيش مأساة حقيقية وحالة من انعدام الرؤية وفقدان البوصلة السياسية والاقتصادية، وبالتالي دعونا نكون صادقين مع الشعب السوداني، لنوضح له أن الذين صنعوا الأزمات الراهنة لا يمكن ان يصنعوا استقراراً أبداً.. إنها نظرية بسيطة قالها الاديب الراحل الطيب صالح حينما زاره احد قيادات الخرطوم إبان إقامته بمدينة الضباب.. قال الطيب الصالح رحمه الله «استمعت إلى محدثي وهو يسهب في وصف التطور الذي تحقق بالسودان ومدى ذكاء وعبقرية الحكومة الحالية في النهوض بالسودان.. لقد تحدث الرجل كثيراً واستمعت اليه كثيراً، ثم قلت له في نهاية المطاف: يا أخي إذا كنتم بكل هذا الذكاء الذي وصفت فلماذا تلوك المحافل الدولية سمعة البلاد؟ لماذا هذه الأزمة في دارفور ولماذا ولماذا» إنها اسئلة لم يستطع محدثي الصالح الاجابة عليها، وبالتالي نحن نعلم أن المتشدقين بالنظريات الاقتصادية العجيبة من حكام الخرطوم اليوم قد أثبتوا عجزهم التام عن إدارة اقتصاد البلاد، وأصبح السودان سلة الأزمات من كل حدب وصوب. ان السودان يعيش اليوم حالة انعدام وزن وتوهان اقتصادي مريب، فالقطاع الاقتصادي حينما عجز عن مكافحة السوق الموازي قرر الاستجابة لرغبات السوق الموازي وتعويم المسألة، بحيث تصبح الحكومة تاجر عملة جديد يدخل السوق ليبيع للمواطن المسكين ما ظلت تبيعه مافيا العملة وتتلاعب باقتصاد البلاد، انها خطوة مريبة، إما أن «تغطس» حجر البلد أو «تغطس حجر البلد أيضاً» ما لم يخرج علينا عبقري من عباقرة البلد الذين عناهم الراحل الطيب صالح بأنهم «إذا كنتم بهذا المستوي من الذكاء» فلماذا لم تستطيعوا لجم الحصان الجامح للاقتصاد السوداني وتطويعه لمصلحة المواطن؟ لماذا التضخم والتورم والغلاء؟ لماذا الندرة في العملة وفي الضروريات ولماذا ولماذا؟