بقاؤنا في القاهرة لفترة طويلة مكننا من التعرف على مجموعات متباينة كثيرة من طلائع الحركة الجماهيرية ومواطنين عاديين ونقابيين وطلاب وحزبيين وضباط متقاعدين ونفر من ذوي الاهتمامات الفكرية والسياسية والثقافية، ومن كافة اوجه ومناحي الحياة المختلفة.. مواطنون سودانيون احبوا وطنهم منذ نعومة اظفارهم يحملون همومه ويحلمون بوطن واحد حر ديمقراطي يعيشون فيه حياة كريمة، وهنالك شباب وكهول عايشوا فترات المد والانحسار منذ الاستقلال والحراك السياسي وحكومة شمولية واخرى ديمقراطية، ولكن النتيجة للأسف سواء في كافة المجالات الى يومنا هذا.. منهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر على قيد الحياة يناضلون من أجل الديمقراطية والتداول السلمي للسلطة. وتعرفنا على شخصيات عديدة ولفترات مختلفة، فقد كانت القاهرة بمثابة «محطة ترانسيت» محطة عبور تعج بالمواطنين السودانيين الذين ضاق بهم وطنهم، واحيانا تكون ملاذا آمنا للسياسيين والنقابيين، وحتى اولئك الذين لا علاقة لهم بالسياسة بعد سماعهم بإمكانية توطينهم في دول من العالم الاول المليء بالنعم من مأكل وملبس وعلاج وسكن. وفي تلك الفترة تعرفت على شخصيتين عن قرب من اروع الشخصيات، وكان لهما وقع مؤثر، فقد التقيت واقتربت اكثر من الاستاذين التيجاني الطيب ومحجوب عثمان، اللذين غيبهما الموت يرحمهما الله. وكانا عملاقين في كل شيء علماً وثقافة واستنارة وقيادة، فضلاً عن الكم الهائل من التواضع الجم والبعد عن الشخصنة وتضخيم الذات.. وهذا حال كل من عاشرهما، إذ يجد نفسه مؤكداً تلك الصفات الحميدة دون مجاملة او رياء، فضلا عن صفاتهما المطبوعة بالمعرفة وتراكم التجارب والقدرة الفائقة على التحليل والتبسيط للأمور بدون إخلال، والصدق والترفع والكف عن أية مغنمة أياً كانت مادية او معنوية، عكس كثيرين يعجون في المجال نفسه اتخذوه غاية لتحقيق مآربهم. وقد كنت لصيقا بهما كل على حدة. وكان الأستاذ التيجاني الطيب يسكن في مدينة مصر، ورغم سنه فقد كان حيوياً نشيطاً ومبادراً، وتوطدت علاقتي به عند اهتمامنا بقيام تجمع نقابي، وكان لا يخشى في قول الحق والحقيقة لومة لائم، وأنشأ مجلة دراسات وجعل بعض الاخوة يعمل على تجميع كل المواد الواردة في الصحف والمجلات العربية واصدارها في دورية واحدة تلك المتعلقة بالشأن السوداني، لتعم الفائدة، إذ يتم توزيعها على السودانيين في القاهرة وغيرها.. وكان مباشرا في ايصال قناعاته في الاجتماعات والندوات لا يجامل ابداً وشديد التمسك بآرائه وايصالها وتقبلها من الطرف الآخر رغم حدتها، لأن طابع الصدق والحرفية عنوانها، فيتقبلها الجميع، فكان خصومه على قلتهم يرونه حاداً ولكنهم يتفقون جميعاً على انه شخص صادق عظيم العطاء زاهد لا تستهويه غرائز او شهوة في سلطة او نفوذ، فهذه صفات نادرة قليلة هذه الايام. ورغم كل هذا فقد كانت نقاشاته لا تخلو من فكاهة عابرة.. وكنت ارى فيه شخصاً واضحاً في آرائه واستنتاجاته التي لا تخطئها العين. وقد عاش كل سنوات عمره مهموماً بقضايا الوطن والمواطنين وقضايا شعبه من الكادحين والفقراء، وهناك فترات قضاها في السجن. وكان التيجاني الطيب قامة ورقماً مهما قل أن يجود به الزمان. والشخص الثاني هو الاستاذ محجوب عثمان، فقد كنا اكثر قرباً من بعضنا، وكنت حريصا على سماع آرائه وتحليلاته الثاقبة في ما يجري من أحداث في السودان وقضايا الحرب والسلام، وكنت مستغربا ألا يكون في موقع قيادة الحزب بالقاهرة وهو قيادي وعضو مركزي منتخب ومحل ثقة للجميع، وكان هذا احد الاسباب التي عززت عدم المؤسسية لدى كثيرين غيري.. وآثرت الابتعاد على مضض من الفوقية في القرارات التي ادت لنتائج كارثية لمجمل عمل معارضة التجمع، والتي انتهجت الفردية والقرارات الفوقية والذاتية، وافضت الى تلاشي دور التجمع.. المهم ليس هذا مجاله، ولكنه كان هماً دائماً للسواد الاعظم من السودانيين الموجودين هنالك.. والحق يقال أن الأستاذ محجوب عثمان لم يعر هذا الأمر اهتماماً لأنه كان حالة من الجو العام والنهج الذي أصاب مجمل الحركة السياسية أحزاباً أو تجمعاً في هيئة القيادة او المكتب التنفيذي. وكان محجوب عثمان فذاً من أفذاذ الحركة السياسية وصحافياً يشار له بالبنان.. وكان قائداً كبيراً عظيماً وفرداً عادياً وسط الناس الذين يحيطون به او اولئك الذين يعرفونه.. وقبل مرضه دُعيَ نيابةً عن الحزب لإلقاء كلمة عن الراحل الدكتور عز الدين علي عامر، فقال: «كان عامر الحزب، وعرف الحزب باسمه، ولا أظن أن الحياة ستستمر من بعده كما كانت»، قالها بمرارة وكأنه يستشعر الألم الذي اتى لاحقاً.. وأظن أن محجوب عثمان ظلم في حياته ولم يجد الإنصاف حياً أو مريضاً أو ميتاً.. برغم شخصيته القوية وقامته السامقة التي كانت تتخطى سفاسف الأمور. وكان عبقريا يتنبأ بالحدث قبل وقوعه، مما يجعلك تنصت دوماً لتحليلاته وكتاباته. وغيَّبه الموت مثلما غيَّب الأستاذ التيجاني.. يرحمها الله رحمة واسعة. وأتمنى أن يجد محبوهم وتلامذتهم ما يفيد بتخليد ذكراهم بأن يسمى شارع أو دار ثقافية باسم كل منهما، فهما ليسا أقل مما سبقوهما، فقد كانت مسيرتهما الخالدة إرثاً سودانياً تفانا فيه لمصلحة الوطن والمواطن السوداني، ناهيك عن الخدمة الصحفية التي كانت مدرسة قائمة ذاتها. [email protected]