حاجة سودانية بشلوخها الرأسية الطيبة، لا أدري أي قدر وأية ظروف أتت بها الى هذه البقعة النائية على جبال الروكي.انها على أية حال أحد انعكاسات الخروج العظيم من الوطن عندما أنفض السامر وارتحل العشاق ولم يعد الليل هو ليل الوطن، لكنه ليل التبريح والسهاد والمعاناة والاستثمار الخاسر في زمن نراه يتسرب كل يوم من بين أناملنا على أرصفة المدن البعيدة. لقد امتهنت الحاجة.. غزو عدة مدن امريكية بالصلصة والكسرة والويكة والمفاريك بمسحة تطويرية جديدة وربما تطريزية دخلت عالم تجارة الملايات وممارسة مهنة البيع الالكتروني للملايات عبر الهاتف الى جميع الولايات، رغم الحظر الدولي الذي تطبقه الولاياتالمتحدة على السودان. ومن المسحات التطويرية للحاجة إعداد العصيدة على شكل يشابه الكيك وصنع الكسرة بطريقة أقرب الى الكورن فليكس، وهي تعتز بتوصلها الى وصفة عصيدة متميزة من الدقيق المكسيكي. وربما وبنهج استراتيجي تسويقي ذكي تقوم بذلك كخطة تسويق استراتيجية خاصة بولاية كلورادو لعلمها بوجود مهاجرين مكسيكيين كثر بها من خلال توجه كوني غايته غزو العالم بالصلصة والكسرة السودانية. أو لسنا في عصر العولمة؟ قالت بلى، مرددة قول سيد أحمد الحردلو في قصيدته سنيوريتا: لأنو بناتنا في المكسيك بدون اخوان وذاكا حرام انجليزي الحاجة لم يعد تلاقيط بعد أن برعت في تغذية دسك الكمبيوتر في رأسها الستيني بمفردات مشتقة من حالتها كلاجئ سياسي تم تحويل «كيسه» الى المحكمة، فهي تعرف مثلاً كلمات مثل appeal أي استئناف وdeportation أي إبعاد وpetition أي استرحام. إن الحاجة تقول إنه يجب على المرأة السودانية الا تستنكف في عصر العولمة عن مهمة كهذه وهي تضرب أمثالاً لعمليات غزو سوداني تمت على عدة أصعدة لدول أخرى، لقد غزونا والحديث للحاجة التي ان اردتم معرفة اسمها فارجعوا لاحدى اغاني التاج مصطفي شرق إفريقيا موسيقيا ًوغربها بالمديح وشمالها بالناس والمياه. وخلال اقامة ليست قصيرة لها في مدينة الرياض بالسعودية، واجهت منافسة قوية في مجال بيع الكسرة والويكة الناشفة والقنقليز الذي يسميه السعوديون الحبحب والفول السوداني وزيت السمسم والفسيخ، والأهم من ذلك الطلح والشاف والكليت، احدى أهم مصادر الاسترخاء لاعصاب الأسر السودانية المطحونة في تلك البلاد. والحاجة تدلل على وعيها في هذا المجال بعدة أمثلة، فالكرنتينة مثلاً في جدة حارة للشطة والصعوط والعراريق والتكك والمراكيب والقفف بمختلف احجامها، كما أن بني مالك حارة للعجالي السوداني وجبنة الدويم وباسطة أم درمان، وبها يوجد مطعم السودة المتخصص في الأكل السوداني الشعبي، وهي مثل الكرنتينة مستعمرة للصعوط والقراصة، بل أن الساحات المحيطة بقنصلية السودان في جدة أصبحت ساحات للكسرة والجلاليب والعمم والكركدي، والجديد هنا أن البائعات لا يخفن من كشات الشرطة والمطاردة في الأرزاق. إن الحاجة تؤكد أن بقية مدن المملكة والخليج تتعرض لغزو سوداني مركز في هذه المجالات، حتى أن رجال الجمارك أصبحوا يميزون بين مختلف أصناف ود عماري والشمار والسمنة البلدي وأنواع الطواقي والتكك والشالات والمراكيب الفاشرية وجميع مواد العواسة السودانية التي غزا بها السودانيون العالم. فاذا علمنا أن تلك المطارات والموانئ مناطق جاذبة للحم السوداني مثلما هي جاذبة للأطباء وأساتذة الجامعات والمهندسين، نستطيع أن نؤكد أن السودانيين بتلك المواقع سيبشرون بطول سلامة، فالوطن طارد والمائدة مكتملة في تلك الدول وناقصة في الوطن هذا اذا نجحوا طبعاً في رضاء الكفيل أو اطالة أمد عقودهم في تلك الديار. ومن خبرة الحاجة فإن السودانيين في الدول التي لا يوجد بها نظام الكفيل أسعد حالاً، فهم على أرصفة المدن الانجليزية مثلاً لا يحسون بسوط الكفيل في التمتع بالعيش الجميل، لذلك فهم أكثر استمتاعاً بأماكن الكسرة وطنبور اليمني وحفلة وردي او ستونة أو زيارات فرقنا الرياضية في هزائمها المأساوية العديدية.. والتلفونات تقرب لهم مسافة ومساحة الحديث مع الوطن، والطائرات بأحمالها وأثقالها تنقل لهم الأهل والمؤن والصور والأشرطة وصور العرايس الممكنة. إن الوطن طارد وهو متاح في الغربة، فلماذا تعود هذه الحاجة أو غيرها؟ لقد أوحت هذه الحاجة المدهشة لي بهذه الخواطر، فهي منها واليها ولها، حتى ظننت أن هذه الحاجة كانت في ربيعها هي الملهمة التي أتى عليها التاج مصطفى في ملهمته الرائعة «يا روحي صدقني». وقد شطح بي الخيال حتى ظننت أن الوعكة التي ألمت بفناننا الرائع أخيراً ربما سببها انقطاع سبل الوصل بينه وبينها، وعلمه بأن سعيها لنيل اللجوء السياسي سيباعد بينها وبين مقرن النيلين وشط الموردة وعلالي أبو روف. وأستطيع أن أدعم ظني هذا بأنني سمعت ذات مرة هذه الحاجة وهي تترنم بشكل شجي محزون وبدمعة خفية سالت على جدول من جداول شلوخها بأبيات من هذه الأغنية : تتركني لي الماضي مع إنو في الإمكان تخلي نار الشوق برداً علي وسلام يا روحي.. صدقني إن الملهمة تجزم بأن حصولها على اللجوء قادم لا محالة، لأن عواستها عواسة سياسية وملاياتها حضارية وكسرتها ديمقراطية وشطتها عدل وحرية وطلحها راحة وسلم وفسيخها شفاء للجسم، رغم تحذير أطباء كلورادو من خطر الصوديوم على ضغط الدم. حين تناقش هذه الحاجة الملهمة تؤكد لك مشروعية عواستها السياسية، وتدلل على أن الدولة السودانية ظلت تمارس العواسة السياسية منذ الاستقلال في ساقية جحا غير مسبوقة بين العسكريين والمدنيين، والتأرجح بين الشرق والغرب الى أن ذاب الشرق كفص ملح علا جبروت الغرب كما رد جبار تناطحه حكومتنا بعكاكيز من العشر.. عواسة سياسية لا مثيل لها تغذيها ذاكرة ضعيفة للسودانيين. ونطرد الحاكم الذي يعمل ونشحن ذاكرتنا الفنية بمجد لا وجود له للسفاحين والجبابرة. وجربنا كل مناهج الاقتصاد واستعملنا كل أنواع الوزراء، فيوماً هذا وزير مالية طيب القلب نراه يوماً وزيراً، ويوما آخر رئيساً لشركة، ويوماً على التلفاز ببدلة جميلة مرافقاً لوفد مسافر في منظمة إقليمية.. بلادنا بلاد العواسة السياسية هي بلاد جيوش الاستوزار للمعارضين على حساب الكفاءات المتمرسة. ويصبح اللحد الوزاري في بلادنا لحداً مراراً ضاحكاً من تزاحم الأضداد. وبين هذا وذاك تنوش سهام الصالح العام مستقبل الأسر والخبراء الذين يسرقهم العمر على أرصفة المدن البعيدة. ولهذا فإن عواسة الملهمة السياسية عواسة مشروعة، وفيها خدمة لضحايا العواسة السياسية وتغذية لهم بكسرة لم يجدونها في الوطن، وزينة لهم بالمراكيب والعراريق والسروايل والدكك.. ألم يقل شاعرنا: يا بلدي يا حبوب يا أبو جلابية وتوب وسروال ومركوب إن هذه الحاجة تحول لحظات الحزن والغربة والبعد إلى مصطلحات فكهة، فهي مثلاً تسمي الدولار الأمريكي «الضحاك» غير عابئة بحزن هذا الدولار الآن في خضم الأزمة الاقتصادية الحالية بأمريكا. وربما أرادت التأكيد على أن هذا الدولار في أسوأ حالاته قادر على الفتك بعملتنا الوطنية التي جاءت الانقاذ ضمن ما جاءت لإنقاذها، وفي هذا السياق فإن الدولار الأمريكي ضاحك وضحاك وضحوك وربما مضحك. أقول هذا وفي البال دفتري الكبير الذي كنت أقيد به البضائع القادمة لمؤسسة الأسواق الحرة عام 1979م، حيث كان يعادل حوالى «3» جنيهات سودانية، وربما اتسع هنا معنى هذه الحاجة الفيلسوفة إذا كانت تقصد أن الحق عزَّ وجلَّ هو الذي أضحك وأبكي عن طريق هذه العملة الحاسمة التي يقول لها العالم «دايرين رضاك ورضاك محال». إنني لا أضمن هذه الحاجة الذكية الماكرة ونحن في وطن منتج للساسة الذين لهم أعمار الحوت في بلادنا، بينما يهلك مبكراً الشعراء والفنانو ن. إن هذه الحاجة الماكرة ربما تقصد أن الدولار ضحاك أو ساخر أو ضحوك أو مضحك، لأنه بسطوته وجبروته تحدد مصائر حبايبي الحلوين العرب والمسلمين. ومادام حبايبي الحلوين العرب والمسلمين يتم اضحاكهم او ابكاؤهم عن طريق هذا الضحاك، فسوف تظل عملاتهم الوطنية دنانير تفر من البنان كما يقول جدهم شاعرنا الفحل أبو الطيب المتنبي. وأدركت أن مهمة الحاجة حضارية وسياسية واقتصادية، وأن عملها يفوق بأضعاف مهمة وزير دولة أو وزير مركزي يسطع اسمه في ردهات العمل العام، لكنه سرعان ما يتراجع إلى رئيس شركة أو منظم هتافات أو مدير مشروع وهمي بطيء العائد والنتائج.. نظرت إلى الحاجة ملياً وعيناها مغرورقتان بالدمع وغنت: يا روحي صدقني!!