كنت حريصاً أن أكون حاضراً في الجلسة الافتتاحية على الأقل في الندوة الدولية حول السودان في العهد العثماني، والذي تأخر انعقادها كثيرا مما أعلن عنها في وقت سابق ولم تعلن دار الوثائق القومية عن اسباب هذا التأخير وهي الجهة المعنية بقيام هذه الندوة ولكن الحمد لله انها قامت في وقت مناسب، اكتملت فيه الأوراق اعدادا وتنظيما وكذلك الاجراءات التنظيمية من حيث الترتيب وكذلك الضيوف المشاركين من خارج السودان من تركيا وماليزيا والجزائر، وان كان معظمهم من تركيا فالاسباب واضحة من العنوان. وبدأت الجلسة في مواعيدها في العاشرة تماما وكان ضيف الشرف في معقده في هذا الوقت تحديدا وهو الاستاذ علي عثمان محمد طه النائب الاول لرئيس الجمهورية والذي كانت كلمته في الجلسة الافتتاحية عبارة عن مفاتيح ومقدمات لأوراق كثيرة يمكن ان تقدم في مؤتمر آخر خاصة اذا اخذنا رؤوس المواضيع التي تحدث عنها إشارة أو تفصيلاً، خاصة عن اهمية التاريخ في صناعة المستقبل وهي الحكمة التي أشار اليها اهلنا البسطاء في حكمتهم «الما عندو قديم ما عندو جديد» وهي التي اتكأ عليها النائب الاول ليتحدث عن صناعة المستقبل من خلال قراءة الماضي، وهو يشير الى تركيا نفسها موضوعا لانطلاقة هذه الندوة «السودان في العهدالعثماني» حيث ان السودان كان حاضرا في هذا التاريخ من ثلاث زوايا، الزاوية العربية والافريقية والاسلامية والباحث في العهد العثماني من هذه الزوايا يجد السودان حاضرا فيه بقوة. والأمر الذي توقعه النائب الأول من خلال هذه الاوراق ألا تظهر مساوئ هذا العهد خاصة وان التركية ارتبطت في رؤوس أهل السودان السابقين والحاضرين منهم ببعض الممارسات التعسفية في ادارة البلاد وما سجلته ايضا الامثال السودانية والحكم عند اهل السودان البسطاء مثل «التركي ولا المتورك» و«يضربك الضريب» في اشارة الى جانب الضرائب في ذلك العهد، والتاريخ لا يؤخذ من زاوية واحدة بل يؤخذ كله ويدون ويترك الامر بعد ذلك للباحثين والعلماء من أهل الاختصاص وكانت هذه واحدة من اشارات النائب الأول في كلمته امام هذه الندوة عندما تحدث عن اعادة كتابة التاريخ او اعادة كتابة تاريخ السودان، كتابة محايدة توضح كل الصور السياسية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية دون تزييف للحقائق او الاتكاء على حقبة زمنية معينة دون بقية الحقب، فالحياد في اعادة كتابة تاريخ السودان هو الأساس الذي يضمن توافر المعلومات بطبيعتها دون ان تتدخل فيها «يد» الباحث او المؤرخ حسب ميولات خاصة به ان كانت جغرافية او سياسية او علمية. وان كنت لم اطلع على الأوراق بدا لي ان الجانب الآخر للسودان في العهد العثماني لم يجد حظاً كبيراً من خلال ورقة او ورقتين باعتبار ان الحكم هو المؤثر في كل الجوانب الأخرى من الحياة، ولم تجد مساوئ الحكم التركي التي كانت جزءا من كتب التاريخ الذي يدرس في المراحل التعليمية قبل الجامعة والتي كانت سببا مباشرا في قيام الثورة المهدية والتي كان شعارها ان المهدي اراد ان يملأ الأرض عدلاً بعد ان ملئت ظلما وجورا، وان كان النائب الأول قد أشار في كلمته ان التدوين والتوثيق واصدار المؤلفات كان جيداً لفترات المهدية والاستعمار وما بعد الاستقلال وان كانت الفترة التي سبقت قيام الدولة المهدية في السودان لم تحظ بهذا القدر من المؤلفات التي صدرت للحقب الثلاث الاخيرة. وقد تكون اشارة النائب الاول للعلماء والباحثين وأهل الاختصاص الذين اكتظت بهم قاعة الشارقة في جامعة الخرطوم والتي استضافت «الندوة الدولية حول السودان في العهد العثماني» والتي يبدو انها كانت جزءا من اهتمامات النائب الأول بالتاريخ واعادة قراءة التاريخ، عندما ذكر انه في احدى زياراته لدولة تركيا تحدث مع السفير وقتها محمد الحسن محمد الحاج، وهو من المايويين والذي تولى وزارة مجلس الوزراء في عهد الرئيس نميري واستوعبته الانقاذ مع عدد مقدر في وزارة الخارجية امثال عبد الله محمد أحمد من حزب الامة والفاتح عروة وعبد الله أحمد عبد الله وغيرهم، وهذا الحديث اكد الوزير المختص في كلمته أنه لولا جهود النائب الاول ومتابعته لما قامت هذه الندوة، وهذا القول يؤكد اهتمام النائب الاول بدار الوثائق القومية وان الذي حدث فيها من تطور من نقلها من مبنى متهالك في شارع الجمهورية في دائرة المهدي الى مبان ذات سعة ومقومات فنية لم يكن وراء جهد الوزير كمال عبد اللطيف الا دعم وتوجيه من النائب الأول والذي لم يفوت الفرصة أمس في مخاطبته لهذه الندوة ليؤكد أهمية دار الوثائق القومية في عمليات البناء والتطور الذي يمكن ان يشهده السودان. وان التطور لا يمكن ان يحدث فقط بالعلوم التطبيقية والتقنية ولكن للعلوم النظرية دور في هذا التطور مثل التاريخ والاجتماع وهذا ما جعل الأوروبيين يسرقون التاريخ العربي والاسلامي الموجود الآن في دور الوثائق في بريطانيا والنمسا وألمانيا وايطاليا وغيرها ، ومن هذا التدوين ومن هذا الارشيف بنيت الحضارة الأوروبية التي اتكأت على إرث العرب والاسلام الموجود في بلاد الشام وشمال افريقيا والجزيرة العربية والاندلس وجنوب فرنسا، ومن هذا جاء حديث النائب الاول عن أهمية دار الوثائق وعن أهمية إدارة المعلومات والبحوث والارشفة في مؤسسات القطاع العام. ومن هنا يجب أن يوجه النائب الأول ومن خلال مجلس الوزراء كل الجهات للانتهاء من هذه الادارة والاعتناء بها وتوفير كل ما يلزم من ادوات حتى تؤدي دورها في التوثيق للحياة في السودان، وتشجيع أصحاب التجارب من أهل السياسة والاقتصاد ورموز المجتمع ان يوثقوا مذكراتهم لأن فيها ما يفيد الاجيال القادمة في بناء المستقبل. ان حديث النائب الأول عن دار الوثائق واهميتها ودورها يجب أن يترجم هذا الحديث الى واقع ملموس وان وزير الدولة المختص في مجلس الوزراء تقع على عاتقه مسؤولية كبيرة في ان يترجم هذا الحديث الى خطة تحدث المزيد من التطور والنهضة في دار الوثائق. وأيضاً مطلوب من دار الوثائق ان تنظم ندوة مثل هذه الندوة لكل الحقب في السودان وتدعو العلماء والمختصين للمشاركة فيها ليجد الباحثون من بعد ذلك مزيدا من الاوراق والكتب عن هذه الحقب وان كانت ندوة السودان في العهد العثماني، يمكن ان تقام ندوات نظيرة للمهدية والاستعمار الانجليزي والحقب الوطنية حتى عهد مايو فهل فعلت دار الوثائق هذا الأمر.