أثار تقرير المراجع العام الذى قدم امام المجلس الوطنى الاسبوع المنصرم، تساؤلات عديدة ومربكة فى قضايا اساسية تمس حياة المواطن وتعكس خللاً فى السياسات المالية والنقدية ظلت تلازم تقارير المراجع العام لعدة سنوات مضت، وأحدثت تعقيدات وتشوهات كبيرة فى الاقتصاد السودانى، وتسببت فى اضرار بالغة بسمعة البلاد، وبالرغم من أن التقرير قد احتوى على نتائج مذهلة ومخيفة فى كثير من القضايا التى ظلت لسنين عدة لا تجد الحسم والردع لإيقافها، الا انه عكس هذه المرة نتائج موقف القروض والمنح بالتركيز على المنح التى ظلت عصية الفهم، وتجد صعوبة فى تتبع مساراتها من قبل كثير من متخذى القرار حتى على اعلى المستويات. وتعرض التقرير لمنحة وزارة التعاون الدولى «منح»، وبالرغم من أن محتوى التقرير حول هذا الموضوع الذى لم ترد فيه أية اشارة لمخالفات او تعدى على المنح، الا ان كثيراً من الاقلام الصحفية وللأسف الشديد عملت على تشويش الموضوع وحولته من سياقه الذى عبر عنه التقرير الى قضية تركت عدة استفهامات لدى الرأى العام، وحتى الارقام التى تم عرضها فى الصحف تختلف عن الارقام التى جاءت في التقرير، تارة بالجنيه وأخرى بالدولار، وذهبت تلك الاخبار الصحفية اكثر الى تخيل تأثير نتائج تقرير المراجع على الشأن الخارجى فى موضوع المنح، وكأن تلك المنح يتم تدفقها عبر الدعم المباشر للموازنة العامة ومن خلال ميزانية الوزارات بما فى ذلك وزارة التعاون الدولى «يا للشفافية فى إدارتنا للموارد المالية العامة»، ولا يدرون ان تلك المؤسسات الدولية بما فيها وكالات الاممالمتحدة تنتهج آلية التنفيذ المباشر عبر نظمها وآلياتها الخاصة، وذلك لأسباب يعلمها الكل مثل غياب النظم المالية والاطر المؤسسية الشفافة ومطلوبات التنفيذ الوطنى المتمثلة فى مبادئ الحوكمة المالية والاقتصادية والأهداف والاعلانات العالمية للالفية واستراتيجيات خفض الفقر والإدارة الرشيدة للمال العام، وجل هذه المبادئ ظلت نظمنا بعيدة عنها. لقد عكس موضوع المنح الذى ورد فى تقرير المراجع وتناولته العديد من الصحف درجة متدنية من الفهم العام لطبيعة تقديم واستخدامات المنح والمساعدات الدولية التى تقدم للبلاد، خاصة خلال العقدين الماضيين. وهذا للأسف الشديد جزء من التراجع المخيف الذى شمل كافة القطاعات السياسية والمدنية وادوات توجيه الرأى العام فى البلاد، ويحتم علينا فى هذا المقال ان نوضح الكثير من المطلوبات وطريقة استخدام وتوجيه موارد المنح والمناخ الذى تعمل فيه لنقرب الصورة اكثر فى هذا الموضوع الحساس لاهميته، ورفع أعلى درجات الحس التنموى والسياسى المرتبط بالموضوع، واهمية المنح والمساعدات فى الاسهام فى سد الفجوة التنموية والانفتاح والتعاون مع الاسرة الدولية. والشاهد أن مبلغ المنح الذى ورد فى تقرير المراجع العام عبر عن حجم المنح التى توفرت للبلاد خلال عام 2011م، بمبلغ 721 مليون جنيه كما جاء فى التقرير بحساب سعر الصرف لتلك الفترة الذي عادة ما تقوم بتحويله ادارة القروض بوزارة المالية والاقتصاد الوطنى من الدولار للجنيه، وهذا المبلغ هو المنصرف الفعلى خلال العام المذكور، ولم تتوفر تفاصيله التى تساءل عنها المراجع العام لدى وزارة المالية حينها، بل هو فى الاصل بحوزة وزارة التعاون الدولى السابقة، كما لم يتحدث تقرير المراجع العام عن تجاوزات فى المنحة بل أثار جملة من التساؤلات ونقصاً فى المعلومات تمثلت فى الآتى: حجم المنح لعام 2011م، اوجه الصرف والجهات المانحة. وهذه المعلومات كما أشرنا سابقا لا تتوفر اصلا لوزارة المالية ولا تطلبها، وبالتالى فإن المراجع المقيم بوزارة المالية من واقع السجلات رصد ذلك المبلغ دون تفاصيل، وهى فى حقيقتها المعلومات تتوفر لدى وزارة التعاون الدولى السابقة. ويتوفر لوزارة التعاون الدولى الحجم الكلى للمنح لعام 2011م الذى يبلغ 375.818.991 دولاراً بما فى ذلك تدفقات صندوق المانحين، وصرف من ذلك المبلغ خلال عام 2011م مبلغ 241.299.638 دولاراً، والمصادر الاساسية لهذه الموارد المالية هى وكالات الاممالمتحدة، الاتحاد الاوربى ودول التعاون الثنائى مفصلة باسم المانح، ويتم استلام التمويل بواسطة الجهات المنفذة مباشرة عن طريق المانحين، وزارة التعاون الدولى ليست جزءاً من الجهات المنفذة، بل هى التى تشرف على الاتفاقيات وتقوم بعملية التنسيق، وقائمة المانحين متاحة بقواعد بيانات الوزارة. اما في ما يتعلق بالتساؤل الخاص باوجه ومجالات الصرف، فكما اشرنا فإن الاولويات يتم تحديدها بصورة مشتركة بين الجهات الحكومية المستفيدة من الوزارات الاتحادية وعلى المستوى الولائى، وفقاً للخطط وأطر التعاون الدولى المتفق عليها مع المانحين، وهى الاخرى متوفرة ومتاحة لدى وزارة التعاون الدولى، ولا تتوفر لوزارة المالية والاقتصاد الوطنى التى خضعت للمراجعة. وتمتلك الوزارة بيانات تفصيلية بقائمة جميع المشروعات التى تم تنفيذها فى عام 2011م، كما تمتلك حجم الصرف الذى وجه لكل قطاع من القطاعات التسعة المتفق عليها مع الشركاء، وحجم التمويل الذى خصص للولايات والجهات المنفذة، وغير ذلك من المعلومات التى توجد فى قواعد بيانات العون الخارجى بالوزارة التى لم تتوفر الفرصة للمراجع العام للاطلاع عليها. ويدرك المانحون انهم من يقوم بتخصيص التمويل وتنفيذه تنفيذاً مباشراً عبر المنظمات الدولية الطوعية او وكالات الاممالمتحدة، وبالتالى ليست هنالك أية اموال يتم تدفقها عبر الجهات الحكومية، وهذا هو المحور المركزى الذى يجب أن يتساءل الناس عنه ولماذا يظل التنفيذ مباشراً عبر المنظمات الدولية او وكلائها من المنظمات الطوعية العالمية، وجميع دول الإقليم من حولها تنتهج التنفيذ الوطنى خاصة لبرامج ومشروعات الاممالمتحدة؟! الاجابة عنه لا يسعها هذا المجال، وان كانت الوزارة التى تم الغاؤها قد قطعت فيه شوطاً كبيراً. ووزارة التعاون الدولى ليست لها أية علاقة باجراءات الصرف على المنح بسبب غياب آليات التنفيذ الوطنى الذى له مطلوبات عديدة تتطلب اصلاحات مؤسسية فى نظمنا المالية وحوار سياسات عميق حول آليات التنفيذ، وفوق ذلك إرادة ساسية. إن حجم المنح المرصودة والمتوقعة خلال الاربعة اعوام القادمة بذات الآليات يمكنها أن تسد فجوة مقدرة فى قطاع التنمية خاصة فى الولايات، ويمكن أن تساهم المنح بنسبة 65% من تغطية العجز فى تمويل التنمية، ويكفى ان شكل التمويل الخارجى من المنح اكثر من 70% من الموارد المالية المرصودة للتنمية خلال هذا العام 2012م، ويشكل 63% من تمويل عجز الموازنة للتنمية لهذا العام. إن المطلوب درجة عالية من الفهم والارادة والاحترام للتعامل مع المنح والجهات التى تقدمها، والكف عن الاستخفاف والتعالي بما يقدم للبلاد من مساعدات، نعم المطلوب الاعتماد على الذات بوصفه خياراً استراتيجياً برؤية خروج مؤسسية ومستدامة، لكننا لم نعمل لذلك عندما كانت مواردنا ملء السمع والبصر، بل كان الاستعلاء والتحدي حتى على شعبنا الأعزل الذى انهكته المعاناة وشظف العيش وجبروت السلطان.