كنا في جلسة من الجلسات نناقش شؤون الحركة الإسلامية والسر فيها والمعلن والخاص فيها والعام، وعندما أتيحت لي الفرصة ذكّرت الحضور بالآيات من سورة آل عمران التي نهت النبي «ص» عن الغلول والاستئثار بأي أمر من أمور المسلمين من دونهم ولو كان ذلك في مثل أجواء الاستنفار وحالات الطوارئ التي أحاطت بغزوة أحد. والآيات التي تنهى عن النجوى في سورة المجادلة والتي تقول «إنما النجوى من الشيطان» فعلق الأستاذ علي عثمان علي حديثي بواحدة من تعليقاته الفكرية العميقة قائلاً: بعض النجوى يجوز. وهو يشير إلى قوله تعالى: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلَا تَتَنَاجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ» أو قوله: «لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا»، ولم يفطن كثير من الحضور الذين كان معظمهم من قيادات الصف الأول من الحركة الإسلامية لهذا الحوار الأصولي في شأن هو موضع سجال هذه الأيام ليس في السودان ولكن بين الحركات الإسلامية في الشمال الإفريقي كلها والتي صعدت إلي الحكم بعد الثورات العربية وبدأت تفكر في علاقة كياناتها الخاصة ومؤسسات الدولة القانونية التي تنشؤها حتى لا تكرر تجربة الحركة الإسلامية السودانية والشيوعيين من قبلهم تذكرت ذلك وأنا جلوس في اجتماع للمجلس الاستشاري لأمانة الفكر والثقافة والمجتمع للمؤتمر الوطني يناقش موجهات خطة عام 2013م برئاسة الدكتور أمين حسن عمر وحضور السيد نائب رئيس الجمهورية الدكتور الحاج آدم ومساعد الرئيس الدكتور نافع علي نافع، ففوجئت بغياب أجهزة الإعلام وغياب مادة الحوار عنها بعد ذلك، وقد كنت اتوقع ان يعقد الأخ الأمين بدلاً من ذلك مؤتمراً صحفياً يستعرض فيه الموجهات للتداول لأنني موقن تماماً بأن غالب نشاط الحزب ليس من نوع النجوى المباحة والتي أشار إليها شيخ على لا سيما إذا كان الأمر يتعلق بالفكر والثقافة في حزب يتهمه حتى بعض أنصاره بضعف الاهتمام بقضايا الفكر والثقافة وعلى رأسهم الأمين السابق للأمانة البروفيسور إبراهيم أحمد عمر في تصريحه المشهور قبيل مغادرته لها الذي أكد فيه أنه عجز طوال دورته عن فعل شيء، ولأنه لا أحد يشك في قدرة وكفاءة البروفيسور إبراهيم وقد تولى من قبل مهاماً أشق من ذلك في التأصيل والتعليم العالي فإن البعض رأى أن تصريح الرجل ينطوي على اتهام لقيادة الحزب بأنها لا تضع الفكر والثقافة إلا في مؤخرة اهتماماتها، وقد كانت الحركة الإسلامية تزعم ان الذي يميزها عن الأحزاب والجماعات الأخرى هو اهتمامها بالقضايا الفكرية والبرامج التي تقوم عليها بيعتها مع عضويتها وعامة الشعب. وُلّي الأخ الدكتور أمين حسن عمر الأمانة والحديث وقتها يدور حول دمج مهام الحركة الإسلامية في الحزب بعد أن نقلت إليه كل مهامها السياسية، والأمانة معنية بالشؤون الاجتماعية والتعليم والثقافة والفكر والتزكية والإرشاد والتي توليها الحركة في برنامجها للتغيير اهتماماً خاصاً، كما أنها تمثل وزارة ظل في الحزب لعدد من الوزارات في الحكومة، وهي أشبه بوزارة الشؤون الاجتماعية التي أوكلت مهامها للأستاذ على عثمان محمد طه بعد المصالحة الوطنية، وقد اختير الاخ امين بعناية فائقة لمكانته بين المثقفين عامة وعضوية الحركة الإسلامية، غير أنه يشق على الحزب بجانب همومه السياسية والتنفيذية اليومية الكثيرة والمتلاحقة أن يهتم بهذه النشاطات الحيوية بذات القدر، لذلك اعتمدت الأمانة كما علمت في تنفيذ مهامها على الدعم الذي تقدمه لمنظمات المجتمع المدني وليس على هيكل الحزب. ويتساءل البعض : ما الداعي إذن لاستفزاز مشاعر الإسلاميين بالحديث عن دمج حركتهم أو مهامها في الحزب، إذ كان بالإمكان الحديث عن نقل كل ما يمكن نقله من مهامها إلى منظمات المجتمع المدني بطريق مباشر بدلاً من ذلك بحجة منطقية مقبولة هي تفادي مشكلة المشروعية وتداعيات السرية ولخلق المجتمع القائد الذي ظلت تبشر به الإنقاذ منذ إستراتيجيتها العشرية الأولى عام 1992م؟! وتناولت الورقة كثيراً من القضايا التي تشغل بال المهتمين بشؤون الفكر والثقافة والمجتمع، وقد صيغت بلغة محكمة ودقيقة، لذلك قررت أن استعرضها في الصحافة وأشحذ همم القراء لمناقشة محتوياتها من غير تكليف أو إذن من الأخ الدكتور أمين حسن عمر كما قد يتبادر إلى أذهان بعض الخبيثين الذين يعرفون علاقتي بالرجل ومكانته عندي. وتحدثت الورقة عن التحديات التي تواجهها الخطة، وابتدرتها بالحديث عن اصطفاف الخصوم في وجه الحزب ومشروعه السياسي وحكومته، وهو تحد سياسي أكثر منه فكري أو اجتماعي، وعادة ما يقصد به على المستوى المحلى تجمع الأحزاب وما يسمى بقوى الإجماع الوطني، وهي أحزاب قد تحاوزها الزمان وتناساها الشباب وتعاني من التشققات والتصدعات، ولكن التحدي الحقيقي - على المستوى المحلى والإقليمي - هو تنامي المد الإسلامي وتعلق آمال الشعوب بالإسلام مع عجز واضح من الحركات الإسلامية في تحمل هذه المسؤولية وسوق الأجيال الجديدة إلى غاياتها، مما أدى إلى تصاعد اتجاهات التطرف وتنامي التيارات السلفية، وخير مثال لذلك هو مصر التي «تسلّفت» فيها حركة الإخوان واقتسم فيها حزب النور السلفي ربع الأصوات في الانتخابات البرلمانية الأخيرة مع الأحزاب الأخرى، رغم المواقف السلبية لكثير من قياداته من الثورة في أيامها الأولى وموالاتها لنظام مبارك، وتعالى صوت السلفيين في السودان فى منابر الخطاب الشعبي والطلابي، وتقاسم بعض أعضاء الحركة الإسلامية «البيورتاريين» بعد الانشقاق وتصاعد الحديث عن الفساد طريق الهجرة إلى الجماعات الصوفية والسلفية، وكذلك المسؤولين والقيادات الباحثة عن القوة والمشروعية الإسلامية التي اهتزت، ولربما حذا السلفيون السودانيون حذو إخوانهم في مصر وكونوا حزباً سياسياً وهي في تقديري خطوة جيدة رغم أنها قد تجتال كثيراً من عضوية الحركة الإسلامية ومناصريها الذين عينهم على تراكم أخطاء التجربة الإسلامية وعجز القيادات عن الإصلاح، وربما قادت السلفيين إلى الاعتدال وجعلتهم أكثر عملية، ولكن التحدي يكمن في دخول السلفيين السياسة بمناهج التفكير السلفية التفسيرية الضيقة وأسلوب التعالي الذي ينطوي على إحساس بالتفويض الإلهي الذي قد يدعم اتجاهات التطرف والاستقطاب السياسي وعصبيتهم للعربية ونقلهم لبذورها المتكاثرة في التراث الإسلامي السني التي قد تستفز الإثنيات الاخري وتزيد الطين بلة. غير ان التحدي الاكبر هو بروز التيار الإسلامي العريض بين الشباب الذي اظهرته الثورات العربية، وعلى الرغم من أنه يستخدم أيقونات الحركات الإسلامية وشعاراتها في التكبير والتهليل وصلاة الجماعة في الميادين العامة والتيمن بيوم الجمعة، إلا أنه شباب غير «مؤدلج» ومنقلب على العصبية التنظيمية للحركات الإسلامية وبعض مواقفها السياسية المتطرفة تجاه الغرب والآخر غير الإسلامي، ومتأثر بتيارات العولمة ومفتون بالديمقراطية والرفاهية والتطور المادي والعلمي الذي عليه المجتمعات الغربية، ويزيد من عظم هذا التحدي أمام الحركات الإسلامية في دول ما يعرف بالربيع العربي. أنها لا تدرك أبعاد إستراتيجيات القوى الدولية والإقليمية من حولها وسقف مطالب الشباب العالى بعد ثورات غير جذرية ارتضت حلاً وسطاً مع الأنظمة السابقة، وتحالفت مع القوى العسكرية لإسقاط النظام السياسي، كما أنها اضطرت إلى الاستعانة بالدول الغربية لا سيما في ليبيا وسوريا، وتبدو الحركات الإسلامية مدينة للأنظمة العربية التقليدية في الخليج والجزيرة العربية التي قدمت لها الدعم في أيام محنتها الأولى، كما أن وسائل الإعلام التابعة لهذه الانظمة قدمت للثورات العربية دعما كبيراً، مما قد يؤثر على مواقف الحركات الإسلامية في كثير من القضايا القومية. ونواصل إن شاء الله