الإستقالة التى تقدم بها بابا الفاتيكان قبل بضعة أيام من منصبه الروحى الرفيع هى إستقالة غير مسبوقة فى تاريخ الكنيسة الكاثوليكية منذ ستمائة عام ، فالرجل ظل فى سدة المنصب منذ العام 2005 وقد برر إستقالته بأن صحته وسنه لم يعودا ملائمين لقيادة الكنيسة . هذه الإستقالة تجعلنا نتساءل : باباوات وكرادلة السياسة القاعدون على أنفاس شعوبهم لعقود طوال ... متى يستقيلون أسوة ببابا الفاتيكان ؟! فأدب الاستقالة هى مجرد كلمات ظل كتاب العالم الثالث يمضغونها ويجترونها ثم يلفظونها على الورق على عشم أن يكرسوا لهذا المفهوم. ويصاب القراء أحياناً بعدوى هذا العشم فيتسقطون الأخبار ولكنهم يفجعون بأنه لا توجد استقالة.. ولا يوجد أدب. والاستقالة أندر من لبن الطير في الحياة السياسية لعالمنا الثالث... أي معتوه هذا الذي يركل الصيت الروحى أو السياسى والمرتب الضخم والمخصصات والعربات الفارهة وبريق الشهرة وتسابق الناس على مصافحته ومداهنته من أجل أن ينصب نفسه قديساً في محراب أدب الاستقالة ؟ وقد كتبت من قبل عن الوزير السابق الذى بعد خروجه من الوزارة تم إستخراج جواز جديد له وأمام المهنة كتبوا (وزير سابق) ، وتصادف أن سافر الرجل إلى بريطانيا وفي مطار هيثرو وأثناء التدقيق الروتيني في الجواز توقف موظف الجوازات الإنجليزي القح أمام (المهنة: وزير سابق) ، فرفع حاجبيه فى دهشة ونظر إلى صاحبنا في امتعاض قائلاً : ( أو تسمون وزير سابق مهنة عندكم في السودان سيدي؟). هذا الرجل الإنجليزي على حق فى سخريته الباردة ، فالمهندس يعمل بالهندسة ، والطبيب يمارس الطب، والمدرس يداه معفرتان بغبار الطباشير طيلة حياته، والوزير يعمل وزيراً... كل هذا مفهوم ولكن ما هي طبيعة العمل الذي يمتهنه رجل مهنته (وزير سابق) ؟! والإستقالات المجيدة ليست وقفاً على ما سلكه بابا الكاثوليك قبل أيام بل سبقه اليها فى التاريخ الإسلامى قبل قرون الخليفة الورع معاوية بن يزيد بن معاوية بن ابى سفيان وهو ما تعرضنا له فى عمود سابق قبل بضع سنوات ، فقد كتب المفكر الإسلامى الراحل الدكتور خالد محمد خالد فى هذا الشأن يقول : (في بدايات عهد الدولة الأموية والتي كانت أول من كرس الملك العضود في تاريخ الإسلام، طاب المُلك للخليفة معاوية بن أبي سفيان، ولم يقنع الخليفة معاوية بما طاب له تاركاً للمسلمين من بعده اختيار من يرفع الراية ويجلى عنها رهق الرغام. وهكذا قرر معاوية أن يضع المُلك بين يدي ولده (يزيد) فأخذ له البيعة بالسيف والقهر. وبعد حين يموت معاوية ويخلفه يزيد الذى كان يسمى (يزيد القرود) ، وكان آخر من يصلح بل آخر من لا يصلح ليجلس في الأمة المسلمة حيث جلس من قبل أبو بكر وعمر وعثمان وعلي رضوان الله عليهم. أيكون (يزيد القرود) خليفة في جيل لا يزال يحيا فيه رجال شامخون أمثال الحسين وعبد الله بن عباس وعبد الله بن الزبير وقيس بن عباده وغيرهم من أصحاب رسول الله؟ لقد كان ضمن بنود الصلح الذي عقده الحسن بن علي مع معاوية أن يكون الأمر من بعده للمسلمين يختارون من يرضون دينه وأمانته وعدله ولكن معاوية خالف الميثاق ، وبالسيف أخذ البيعة ليزيد ، فأصبح يزيد خليفة بعد وفاة والده وتلهّى عن أمر الإسلام والمسلمين بفهوده وقروده، وجعل له في كل ولاية من الأمصار والياً أعمى البصيرة قاسي الفؤاد. ثم يموت يزيد ويخلفه إبنه معاوية الثاني بن يزيد في خلافة لم تلبث سوى بضعة أشهر ... هذا الخليفة الشاب قدم لنا أروع استقالة شهد له بها تاريخ الإسلام ، إذ جمع المسلمين في مؤتمر مشهود ووقف فيهم يقول: (أيها الناس: إن جدي معاوية نازع الأمر أهله، ومن هو أحق منه لقرابته من الرسول (ص) وسابقته في الإسلام وهو علي إبن أبي طالب. ولقد ركب بكم ما تعلمون حتى أتته منيته، فصار في قبره رهين أعماله. ثم تقلد أبي الأمر من بعده، فكان غير أهل له ، ثم صار في قبره رهين ذنبه وأسير جرمه. وإن من أعظم الأمور علينا علمنا بسوء منقلبه وقد قتل سبط رسول الله، وأباح الحرم وخرب الكعبة... وما أنا بالمتقلد أمركم، ولا بالمتحمل تبعاتكم، فأختاروا لأنفسكم. والله لئن كانت الدنيا خيراً، فقد نلنا منها حظاً ولئن كانت شراً فكفى ذرية أبى سفيان ما أصابوا.. ألا فليصل بالناس حسان بن مالك، وشاوروا في خلافتكم يرحمكم الله ) . بهذه الكلمات المفعمة بالورع والحق غادر الخليفة معاوية بن يزيد منبره إلى داره، وظل معتكفاً بها حتى لقى ربه راضياً مرضياً). هذان نموذجان باهران لأدب الإستقالة فى تاريخنا القديم والمعاصر نقرأها ونسمعها ونحن نتحسر ، ف (باباواتنا كثر) على وزن (دنياواتنا كُثر) كما قال العقاد ، لكنهم مع الأسف لا يستقيلون .