ورد في الأنباء أن سفير امريكا بالخرطوم يطوف هذه الأيام بمراكز التصوف بالسودان، يقابل كبار المشائخ ويهدي للحيران المكتبات، ويعد المشائخ بالدعم المالي والمعنوي والثقافي. ويقال إنه يتكلم اللغة العربية كما تتكلمها أنت وأتكلمها أنا ويتصرف في دماثة ولين. أنموذج الدبلوماسي الغربي الذي يتكلم اللغة العربية ويخلط نفسه بالمجتمعات العربية ليس جديداً، فمنهم من مضى في شوط السفير الامريكي الحالي بالخرطوم ابعد منه بكثير، ومنهم من لبس الزي العربي، بل منهم من أذن وصلى وحج واعتمر وأعلن اسلامه على الملأ. وأشهر هؤلاء اقليمياً لورنس العرب الذي قاد ثورة العرب ضد تركيا وحطم خط السكة حديد الذي يربط الخلافة التركية بشبه الجزيرة العربية «خط سكة حديد دمشق» والذي كان رأس الحربة لاقامة الكيانات الاقليمية العربية بعد تفتيت الخلافة بعد الحرب العالمية الأولى. وعندنا في السودان أشهر الأوربيين الذين ادعوا اعتناق الاسلام وتكلموا العربية وعاشوا الحياة السودانية بل وتزوج من سودانية «فاطمة البيضاء»، وكان يحضر مع الخليفة عبد الله التعايشي الصلوات الخمس، هو سلاطين باشا النمساوي الذي تبين فيما بعد عند هروبه أو «تهريبه» الى مصر انه كان كذلك رأس الحربة لغزوة عام1898م على السودان توطئة لاستعماره. ونحن لا نقول مباشرة وبلا دليل إن السفير الأمريكي الحالي بالخرطوم هو امتداد لهذا السلوك الغربي القديم، ولكننا نقول إن الرجل مادام هو سفير الولاياتالمتحدةالأمريكية فإننا نحكم عليه من خلال سلوك الولاياتالمتحدةالأمريكية في السودان الذي هو إلى الآن سلوك عدواني، اذ أن الولاياتالمتحدةالأمريكية تضع السودان في قائمة الدول الداعمة للارهاب، وقد كانت الساعي الأساسي لاتهام رئيس دولة السودان من خلال مجلس الأمن بالإبادة الجماعية وجرائم الحرب، ومن ثم جعله مطلوباً للعدالة الدولية.. ثم إن الولاياتالمتحدة هي التي سعت سعياً حثيثاً لفصل الجنوب، وهي التي أبت أن تفي بما وعدت السودان من المساعدات بعد تحقيقه لكل متطلبات نيفاشا، بل هي الآن وحلفاؤها من يدعمون الجبهة الثورية التي تعلن على رؤوس الأشهاد أنها تريد إسقاط الدولة السودانية بالقوة.. وأمريكا هي التي تقاطع السودان اقتصادياً وسياسياً وثقافياً، وتقف جهاراً حجر عثرة أمام أي سعي سوداني نحو التقدم. فالسؤال هو: هل السفير الأمريكي دمث المعاملة الذي يتبرع بالمكتبات ويقابل مشايخ الطرق الصوفية ويكلم كل أحد بلسان عربي مبين.. هل هو المعبر الرسمي عن سياسة الولاياتالمتحدةالأمريكية الموصوفة أعلاه؟ أم أنه يفعل هذه الأشياء «الطيبة الكريمة» من تلقاء نفسه ومن غير موافقة من وزارة الخارجية الأمريكية؟ بمعنى آخر: هل هو دبلوماسي أمريكي أم على نطاقه الشخصي: رئيس لمنظمة خيرية ترأف بالمساكين وترعى حفظة القرآن الكريم؟ ثم لماذا مراكز التصوف في السودان؟ هل أيقنت أمريكا وحلفاؤها أن الشعوب العربية والإسلامية تأتي بالإسلام حتى عن طريق صندوق الانتخابات.. فأرادت أمريكا وحلفاؤها تعديل هذا الإسلام الآتي حتماً بإسلام صوفي أفضل من «الإسلامات» الأخرى التي يخشونها. ومن قال إن الإسلام الصوفي إسلامٌ سيرضى بما تعمله أمريكا وحلفاؤها في العالمين العربي والإسلامي، فالصوفيون أتقياء ووطنيون ولم يؤت المسلمون من جهتهم كما يتوهم الغربيون. إن أي تقارب من جهة أمريكا وحلفائها في العالمين العربي والاسلامي حتى على النطاق الشعبي مرحب به، وهو ايجابي وفي الطريق الصحيح، لكن الأصح منه والأسهل والأقسط والأكثر احتراماً هو معالجة الأمور الأساسية بعدل وندية وتجرد، لأن الشعوب العربية والإسلامية لا تكره أمريكا، ولكنها تكره انحيازها وتكره استعمالها لقوتها الكبيرة بدون شرف ضد الضعفاء، وتكره وقوفها في طريق تقدم من يريد أن يعيش. الشعب السوداني شعب واعٍ يقبل الخير ويقبل المعروف، وشعب نبيل يكره أن يستخف به. وآخر وصاياي للسيد السفير الأمريكي بالخرطوم أنه يجب عليه وهو يزور مراكز التصوف السوداني، ان يوسع صدره.. فهذه المراكز فيها «دراويش» لا يعرفون البروتكولات، وقد يجد فيهم من قد يطلب منه التقيد بأولى سنن فطرة إبراهيم عليه السلام.. رجائي من السفير المحترم ألا يغضب حينئذٍ من ذلك الدرويش.