الماضي قاسم مشترك:في بنية الرواية ونسيجها يبتدع أمير تاج السر حيلته المبتكرة للتشويق وشد أطراف الحكايات بحبل متين يمثل عمود السرد ولحمته وسداه، فيجعل الماضي المشترك لأبطال الرواية خيطاً يشد الرواية كلها شداً محكماً يجعلها تلألأ وتقود بعضها إلى بعض، فذلك الحدث البعيد الذي حدث في كوخ من أكواخ مداري الفقيرة في زمن ماضٍ، وكان أبطاله أبطال الرواية رابح مديني وعمبابا الأزرق ورضيانة الخضر والممرضة سامتا. الحدث هو أن رضيانة الفتاة الصغيرة التي تنحدر من قبيلة عربية هي الأخري قد تناوب على إغوائها الصديقان آنذاك رابح وعمبابا، وأسلمت نفسها اليهما حتى حبلت دون أن تدري ممن فيهما، حاولا بالاستعانة بالممرضة تخليصها من عارها، لكنها فضلت الهرب به بعيداً عن مداري كلها خوفاً من بطش أهلها، فتوجهت بعيداً إلى جوبا لتعيش هناك منبتة لاجذور لها، وتربى الجنين الذي منحته اسماً غريباً هو الجريح. وهكذا تفرق الأبطال بفعل الأقدار، رضيانة إلى جوبا منفى اختيارياً تعيش فيه مع ثمرة سقوطها الجريح حتى تموت على الهامش بائعة شاي فقيرة كما بدأت، وهي قانعة كما يشير اسمها بحظها في الحياة، طاوية قلبها على سرها، قانعة من الغنيمة بالإياب، وعاشت حياتها في ظل رجل جنوبي أحبها في صمت وحال بينه وبينها عائقان: الدين والعرق لم يجد سبيلاً للتغلب عليهما، وهو تيلا النحات الجنوبي، عاشق تلك الحسناء العربية مهيضة الجناح ، بينما شق رابح طريقه في مداري ليصبح من أعلامها بعد أن كان غاسل دواب فقير نكرة لايعرفه أحد. ويبدو رابح ميالاً إلى إحاطة نفسه بهالة من الأساطير التي تثير الخوف في نفوس من يعرفونه، ففضلاً عن تجارته التي تجمع بين المشروع وغير المشروع، تشير طريقة عرضه وبيعه للمرتزقة الأجنبي إلى رغبة في استعراض القوة وإثارة الذعر في نفوس من حوله، وتؤكد قصته المختلقة، بينة الاختلاق عن الجنية (تابيتا) التي اصطفته دون الرجال لتقضي وطرها منه بالقوة وتتركه في العراء،تؤكد القصة ذلك الميل إلى جعل نفسه أسطورة مهابة، ولعل هذا يعكس خوفاً داخلياً أكثر مما يعكس قوة،وتحديه للمبشرين وسخريته منهم وكشفه عوراتهم علناً ووصفهم بالقطط الضالة يأتي في ذات السياق، وكذلك تحديه لموظفي الضرائب ، كل هذا يعكس ولعاً ظاهراً بامتلاك قوة الأسطورة المعشعشة في الرؤوس. الرجل يخلق أسطورته ويروج لها كما يفعل لبضاعته . يبلغ ذكاء رابح مديني حداً أنه يحول قصته عن الجنية تابيتا إلى واقع تجسده لوحة رسمها فنان عالمي مقابل مبلغ من المال بناءً علي طلب رابح ، ثم علقها رابح مديني في واجهة دكانه لتعضد روايته عن الجنية التي أحبته وطارحته الغرام بالقوة. ، أما (عمبابا ) فقدهاجر إلى كينيا ليكمل ضياعه هنالك ويعود بعد سنوات مجدداً إلى مداري كصاحب سيرك تعيس تفتك به غيرة مدمرة تجاه الصديق القديم رابح، رفيق الشقاء الذي بات من وجهاء المدينة وتركه في السفح، هي غيرة يغذيها الحسد والفشل المستمر في الخروج من دائرة الفقر، وهذه الغيرة كانت بذرة للصراع في الرواية بين قطبي الصراع رابح وعمبابا، وهو الصراع الذي انتهى بموت الأول مرعوباً ضحية لمؤامرة خبيثة نسجها الثاني، الذي انتهى إلى دوامة جديدة من الفشل حين أزيح الستار عن جرائمه، وانتهى به المطاف إلى السجن.وليس من قبيل المصادفة أن رابح الذي سعى في حياته إلى نشر الرعب وسط الذين حوله، انتهى ميتاً من الرعب!! لقد شرب رابح من ذات الكأس، ولم يكن من قبيل الصدفة أن عمبابا نفسه الذي سقى رابح من تلك الكأس ذاقها هو الآخر حين رسم جوجال المسيري وتجار سوق مداري مؤامرة مشابهة لتلك التي نسجها هو، وأوقع رابح في حبائلها ،فجعلوه يصرف النظر عن أحلامه الخاصة بغزو السوق عبر دكان تصفيف شعر، اعتمدت المؤامرة الرعب وسيلة، فكان الجزاء من جنس العمل في الحالين.إنه تكثيف للفكرة واستخدام بارع للحبكة المركبة، وهي من تقنيات كتابة الرواية المعروفة. وقد استخدم أمير تقنية الشخصيات الرئيسة القابعة في ظلال الرواية وهي مؤثرة جداً في السرد وبنية الرواية. فشخصيات مثل الجريح (ابن رضيانة الخضر)الذي يبحث عن جذوره، وزيابا ربيبة عمبابا، والممرضة ساميتا التي لاتكتم سراً، والنحات تيلا ذلك الجنوبي الذي هام برضيانة الخضر وأعطى بلا أمل، وآدم مطر صديق رابح، وعبد الغني باشاكر المختلس الذي حوله عمبابا إلى ساحر تركي ليقضي به علي رابح مديني، كل هؤلاء هم في الحقيقة أبطال وليسوا شخصيات هامشية كما يبدو للوهلة الأولى، وهم فاكهة السرد التي منحت الرواية حيوية وألقاً متجددين.