تسود العاصمتين جوباوالخرطوم موجة من التفاؤل الحذر عقب توقيع اللجنة الفنية المشتركة التابعة للجنة الأمنية السياسية المشتركة بين السودان وجنوب السودان على «مصفوفة» التعاون، خاصة الاتفاق حول انسحاب قوات البلدين من الشريط الحدودي لإنشاء المنطقة العازلة بينهما والمنزوعة السلاح على عمق «20» كيلو متراً على جانبي كل من حدود البلدين. وقد بدأت اللجنة الأمنية السياسية المشتركة برئاسة وزيري دفاع السودان وجنوب السودان محادثاتها لوضع التفاصيل الخاصة بتشكيل لجان مراقبة برئاسة أممية، ونشرها بما يتفق وأغراض وأهداف الاتفاق الأمني. التفاؤل لم يكن قاصراً على القادة في الخرطوموجوبا، بل امتد إلى مبعوث الأممالمتحدة الإثيوبي، الذي صرح عقب لقائه البشير بأن الأممالمتحدة ستؤدي دورها في حفظ الأمن والاستقرار في المنطقة الحدودية بين البلدين ومراقبة المنطقة المنزوعة السلاح بالتعاون بين القوات المشتركة للبلدين. وأكد المبعوث أن مصفوفة التعاون التي وقعت في أديس أبابا ستسهم في تقريب وجهات النظر وإيجاد مناخ ملائم لتنفيذ الاتفاقات. أحد أسباب تفاؤل المسؤولين في البلدين، ما ورد على لسان «سيلفا كير» في لقاء جماهيري حمل فيه بشدة على ما وصفه ب «رعاة الحرب بين الخرطوموجوبا والمتشككين في جدوى التوقيع على مصفوفة تنفيذ اتفاقيات التعاون المشترك». وأضاف: «إن هؤلاء يعملون على بث الشائعات ودق طبول الحرب بين الدولتين، لأنهم لن يخسروا شيئاً، فأسرهم وأولادهم يعيشون في أميركا وأستراليا»، وأن دعاة الحرب «ليست لديهم ارتباطات بالدولتين ولا يعرفون التداعيات الكارثية في حالة نشوب حرب، إنما أنتم الذين تدفعون الثمن وليسوا هم». ودعا كير حكام الولايات الحدودية مع السودان، إلى النأي بأنفسهم عن خلافات الحدود والمناطق المتنازع عليها، مؤكداً أن تلك القضايا ليست من اختصاصهم، بل هي مسؤولية مباشرة للحكومة الاتحادية في جوبا. وردت الخرطوم على تحية كير بأحسن منها، فقد عُلم أن السلطات طلبت من الانفصاليين الذين يرفضون التقارب مع جوبا وقف «نشاطهم الهدام»، ودعم الاتفاق الأخير عبر منابر صحفية وإعلامية ودينية. وفعلاً تلاحظ أن صحفاً وشخصيات معروفة، كانت تهاجم حكومة جنوب السودان ورئيسها وتتهمه بالتآمر على السودان قد توقفت عن ذلك السلوك، الذي كان يلقى هوى كبيراً من بعض الحكام، وتوقفت عن الدعوة الممجوجة إلى غزو جوبا والإطاحة بحكومة «الحركة الشعبية» هنالك. وقد قيل من زمان بعيد إنه ليس في السياسة صداقة دائمة أو عداوة دائمة، إنما هنالك مصالح دائمة.. وهذا القول يصح على العلاقات اليوم بين حكومة «الإنقاذ» وحكومة «الحركة الشعبية»، فقد جربا كل بأساليبه وخططه المكايدات والمؤامرات بل القتال المباشر وعن طريق الوكلاء. وفي كلا الدولتين كان هنالك من لم يدرك حتى الأمس أن العلاقات بين البلدين الشقيقين ستظل باقية ما بقي السودان وشعوب السودان، وأن هنالك مصالح دائمة مشتركة صنعتها الجغرافيا والتاريخ المشترك بسيئاته وحسناته، وأن هنالك أجيالاً من الجنوبيين والشماليين اضطرتهم ظروف الحرب الأهلية الجائرة أن يعيشوا معاً، وأن يختلطوا معاً، وأن يتزاوجوا ويخلفون أبناءً وبنات معاً. وأن التوتر بين الطرفين غذته عناصر في «الجنوب» و «الشمال» وسوء إدارة حزب «المؤتمر الوطني» للفترة الانتقالية، التي كان مطلوباً منها أن تبني أثناءها جسور الثقة وتحقيق العدل، حتى تصبح الدعوة للوحدة جاذبة للمواطن الجنوبي، فهذه الهوجة مصيرها إلى زوال مهما طال الزمن. لقد طالب وزير الخارجية علي كرتي الأممالمتحدة بمساندة دولتي السودان لزيادة الثقة بينهما، وأن تلتزم بالأمانة والحياد في تناول القضايا والتعبير عن مواقف الطرفين. وقال مكرراً القول إن القرارات التي تصدر عن مجلس الأمن وجهات أخرى، ظلت تحمل السودان مسؤولية الإخفاقات المتعلقة بتنفيذ أو توقيع الاتفاقات.. ومن حق الوزير أن يتهم مجلس الأمن و «جهات أخرى» بعدم الحياد أو الانحياز لحكومة الجنوب. ولكن ذلك الآن أصبح في ذمة التاريخ.. المهم الآن أن يجد السودان وجنوب السودان في تنفيذ ما تعاهدا عليه ليس إرضاءً لطرف دولي وإنما ذلك لمصلحة شعب السودان كله.. لمصلحة المساكين والفقراء والأطفال الجوعى الذين دفعوا ثمن الحرب أضعافاً مضاعفة من دمائهم ومستقبلهم.