لا شك في أن هاجس إزالة الفقر ومحو وجوده من بين الناس أضحى هاجسا ومؤرقا كبيرا لمنام الحكومة والشعب على حد سواء، لا سيما أولئك المكتوين بلهيب نيرانه والمصطلين بشدة وقعه في ظل الظروف الاقتصادية الحرجة التي تمر بها البلاد التي تشتد أزمتها وتضيق قبضتها مع كل صباح جديد يرتجي فيه الكل انفراجا رغم الجهود الخجولة التي تفتأ تبذلها الحكومة بغية إصلاح الحال الذي غدا ضربا من المحال في ظل الاستمرار في السياسات التي أوردت اقتصاد البلاد و(غطست حجر) العباد فأوردتهم موارد الهلاك إلا من استعصم بعصم أهل الحظوة. وطالما أن الحال يسير بهذه الوتيرة غير المحبذة والمرجوة كان لابد من البحث عن سبل وطرائق للخروج ببعض المواطنين من دائرة الفقر بغية وضعهم في جادة طريق الرفاه و دعة العيش وأول ما يعول عليه في هذا المقام الجهاز المصرفي بغية المساهمة في إزالة الفقر أو تخفيف حدته ما استطاع إلى ذلك بحكم حجم الموارد المالية التي بين يديه ولعل جهازنا المصرفي سعى في هذا المضمار وتبنى البنك المركزي فكرة التمويل الصغير والأصغر نقلا لتجارب دول عديدة كان لفكرة التمويل الأصغر القدح المعلى في إزالة الفقر ومحو وجوده تماما من باحة كثير من مواطني تلكم الدول فتحولوا من متلقي إعانات إلى دافعي ضرائب عقب انصلاح حالهم المائل سابقا. بيد أن المتأمل لتجربة التمويل الأصغر التي يتبناها بنك السودان المركزي منذ عدة سنوات تجاوزت الخمس وأفرد لها وحدة كاملة تختص بتطبيقها يجد المرء أن ثمة معوقات جمة تضافرت فيما بينها فأوشكت أن تفرغ فكرة التمويل الأصغر على سمو مراميها وعلو مقاصدها من معناها السامي على رأس تلكم لمعضلات عدم اقتناع إدارات المصارف بالفكرة والدليل على ذلك عدم التزامها بسقف التمويل الذي حدده البنك المركزي (12)% لتمويل المشاريع الصغيرة التي يستهدف بها الناشطون اقتصاديا بالمجتمع بشروط ميسرة غير أن الشروط الميسرة التي قامت عليها الفكرة ضاعت وسط ركام اللهث و(الكنكشة) على رأس مال المصارف التي أكدت التجارب وبرهنت مجريات الأحداث أنها مبذولة لذوي القدرة المالية وأصحاب السطوة والحظوة ويحرم منها المعدمون المحتاجون لإغاثتها وأخذها بأيديهم فكم شروط تعجيزية حالت بين الفقراء والحصول على التمويل المصرفي من شاكلة إحضار صك ضمان مصرفي من شخص آخر بجانب علو تكلفة هامش الربح وضعف بث ثقافة التمويل وأهميته وسط المواطنين وما إلى ذلك من مهلكات أضعفت ثمار التجربة فكادت أن توأدها في مهدها . ففي بحثي وهمي عن مخارج لحال تمويل المصارف لدعم الفقراء والأخذ بأيديهم وقع بين يدي مطبق ورقي يحكي عن تصور لتأسيس مصرف أسماه القائمون على الفكرة بمصرف الخير للتوازن الاجتماعي، ووصفوا الفكرة بالجديدة لتيسير الصدقة الجارية للمساهمة في تحقيق التوازن الاجتماعي المفقود فما أحوجنا إلى تطبيق مثل هكذا تجربة بسمو مقصدها، وأوضح المطبق أن الفلسفة والأهداف التي تقوم على دعائمها الفكرة أن يكون المصرف ذا طبيعة اجتماعية وأن يركز على المساهمة الجادة في حل مشكلة الفقر ورفع مستوى دخل الفرد وغرس روح حب العمل وإبعاد الفقراء القادرين على الكسب من دائرة مذلة السؤال وإدمان تلقي الصدقات عبر توفير تمويل مشاريع صغيرة بصيغ ميسرة كالمشاركة والمرابحة والمضاربة أو أي صيغ شرعية أخرى، على أن يتوفر التمويل من صافي أرباح استثمار الأسهم الوقفية بجانب أي موارد أخرى وأن أكثر ما يلفت الانتباه أن تكون بالمصرف أسهم وقفية يساهم بها أصحابها في تأسيس المصرف وتخصص أرباحها لتحقيق أغراض المصرف التي تهدف لبسط التوازن الاجتماعي، ولم يكتف المطبق بذلك بل طفق يوضح نسبة الأسهم الوقفية من رأسمال المصرف والتي حددها بألا تقل عن 51% وأن تكون نسبة الأسهم الاستثمارية العادية 49% وما دون على أن يعهد بإدارة المصرف إلى آلية مصرفية بحتة وآلية اجتماعية متخصصة في استخدام موارد المصرف تحت إشراف هيئة رقابة اجتماعية لضمان تحقيق أهداف المصرف المعلنة من مكافحة للفقر وتحقيق للتوازن الاجتماعي المنشود بنقل أكبر عدد من مستحقي الزكاة إلى دافعي زكاة . فبالنظر إلى أهداف فكرة مصرف الخير يجد المرء أن ثمة ما يدعو لتقبل الفكرة والعكوف على إنزالها إلى واقع معاش بين الناس لجهة مواءمة الفكرة بين ما هو دنيوي وأخروى لمن يبتغي الدار الآخرة ولا ينسى نصيبه من الدنيا، فلماذا لا تتلقف أجهزة الدولة المعنية الفكرة والالتقاء بمتبنيها بغية الوقوف عليها والعمل سويا على تنفيذها حتى تكون شكلا مغايرا لما يجري بالجهاز المصرفي الآن، عسى أن يكون على يدي مصرف الخير الخروج من نفق الفقر والمعاناة التي يعيشها كثير من الناس بالبلاد فما أحوجنا إلى الأفكار النيرة والمقاصد النبيلة التي يتبعها تنفيذ جيد سمته صدق النوايا وقوة العزيمة، لا أن يكون المصرف إضافة لكم المصارف التي تعج بها البلاد دون أن تقدم ما يترجي منها للعباد .