في بلاد الغربة والحياة المؤقتة تتجلى الأقلام برسائل الشوق والحنين إلى الوطن، والى كل عزيز فيه. وينبض القلب بلحن الوطنية، وكلما طافت بك ذكرى تلكم الأيام الجميلة غمرتك الغبطة ولمع وجهك ببريق الأمل، وتدفقت فيك سيول العنفوان وخرجت بقوتها آهات الذكرى والحنين حزنا وحسرة عن فقدان تلكم اللحظات والأيام الرائعة التي قضيتها بين الأهل، وفى دواخلك صوت ينادى ليتها تعود، فينفرط منك عقد الكلام وتنادى بين الحاضرين مستقسما بكل عزيز لديك بأنه صدقوني لولا الحاجة الشديدة وقصر اليد لما كنا هنا، ولما تغربنا وهجرنا الحبيب والقريب. نعلم ذلك، ولست وحدك من يقول ذلك، ولكننا نشاطرك الأحزان لأننا قد شربنا من نفس الكأس، ولم نجد من يعدل حالنا أو يساوى أمرنا بين بقية البشر. وإذا صح التعبير يا صديقى فحالتك أشبه بالمريض، نعم أنت وغيرك من أبناء البلد الكبير الموجودين على أرصفة الشوارع ومطارات المدن ومواقف السيارات، مصابون بداء الهجر والنسيان، أنت تماما مثلهم مريض بعضال الشوق والأمل المكبوت، وفى اشد الحاجة إلى من يعدل حالك ويساويك بين البشر، وحق لك أن تدخل إلى شفخانة العدل والمساواة، ولكن يجب أن تتذكر بأنك لست الأول، فأمامك الكثيرون ممن جار عليهم سلطان الطبقية العمياء وأصيبوا بداء التهميش والنسيان، فيتوجب عليك أن تقف في آخر صف المنبوذين والمرضى حتى يحين دورك ويحالفك الحظ، وبعدها فلتبحث بين دهاليز المؤتمرين عن حكيم يداوى فيك عقلك الذي أصابه فيروس الفكر، وجارت علية مفاهيم التحزب والعرقية الدخيلة والمغلوطة. فيصلحها لك، ويعيد فيك أنسجة التراكيب الدماغية الصحيحة لفهم الحياة بصورة بسيطة ومقنعة، وبأن الرزق آتيك لا محالة. كما أنك بحاجة إلى متخصص آخر يعالج في خلجات قلبك المتيم بحب الوطنية المفقود، تلكم النتوءات المتفحمة التي سكنت في سويداء الحشى الطاهر بفعل غياب من يساوى بينك وغيرك، ويعدل حالك في وطن أنت ولدت فيه وشربت من نيله العذب، وتنفست ريح دعاشه الملهم، فحرمت منه بفعل آخرين غيرك أرادوا لك أن تظل محروماً من نعمة حباها الله لى ولك، فحرموك من كل شىء، واخذوا منك كل شىء، ولم يبق أمامك شيء، سوى أن تعبر المدن والبوادي راجلا نحو المجهول أو تغزو الفضاء في بحثك المضني عن آخرين مبدأهم طاعة الله في أمره، وهو تكريم بني البشر أحياءً أو أمواتا، أو الانزواء في خندق الأمل الكاذب وانتظار المجهول المخيف، ومن ثم الزوال، فسحت بقدميك في الدروب المتعرجة تتلمس خطاك نحو غدٍ مشرق في بلاد الآخرين، تحمل قضيتك على صفحات الورق تحت عنوان: هويتي سوداني. قضيتي دعوني أعيش. جريمتي أطالب بالعدل والمساواة. فسافرت بين الأزمان والأمكنة حاملا بين يديك قضية شعب بأكمله.. دخلت كل المكاتب والشركات أملا في وجود منفذ يساعدك في كسب رزق يسد رمقك ويسكت صغارك. وفى داخلك قلب مريض هجرته كل صفات الحب السامية، وحل محلها ورم التقرح، فأصبت بداء الغل والكراهية، فكان لا بد من مداواتك بعقار العدل وماء المساواة، ولكن هيهات يا صديقى.. ولك أن تتقبل عذري فأنت والآخرون ستكونون من المنظرين والمنتظرين إلى حين إشعار آخر، وذلك لأن طبيب العدل والمساواة بسبب أو آخر قد تم قفل عيادته وصام عن الكلام. ولكن إلى حينها أنصحك بأن تبحث في دواخلك عن زمن آخر جديد.