٭ أن يأتي ديبي الى الخرطوم رافعاً غصن الزيتون وملوّحاً بمنديل المحبة، أو أن يذهب البشير الى أنجمينا متأبطاً مهر السلام وعربون الصداقة، ليست هذه هى القضية، فكثيراً ما حدثت مثل هذه الزيارات ومن مختلف المستويات أسفرت عن إمضاء حوالي ست اتفاقيات لم تجلب صداقة ولم ترس سلاماً ولم تغن عن العداوة شيئاً، وإنما ظلت العلاقة تراوح مكانها مثل بندول الساعة تتأرجح ما بين الاقتراب والابتعاد ولكنها في كل الاحوال لم تبرح محطة العداء وتبادل الاتهامات وإضمار السوء، القضية هى أن قضية دارفور بحركاتها لم تصنعها تشاد، كما أن قضية المعارضة التشادية لم يصنعها السودان، بل صنعت القضيتان صنائع داخلية بكلا البلدين وإن كانا قد تبادلا استغلال المعارضتين لخوض حروب بالوكالة عنهما، ولهذا فان التحرك الاخير لديبي الذي هبط رأساً بالخرطوم أقصى ما يمكن أن يفعله إذا قُدر له أن يكون فاعلاً هو أن (يصبّن) الموضوع هوناً ما ، وذلك لسبب بسيط هو أن حل قضية من يعارضونه ليست بيد البشير، كما أن حل قضية من يعارضون البشير ليست بيده هو حتى ولو اتفقا وتوافقا على قمع كلٌ منهما ما يليه من معارضة، ولعله لا يغيب عن فطنتهما أن القمع أياً كانت شدته وبأسه قد ينجح في التأجيل والتعطيل المؤقت للقضايا الحقيقية، ولكنه ليس مؤهلاً بأية حال لحلها، وهذا هو غاية ما يمكن أن تجنيه زيارة ديبي الاخيرة للخرطوم إذا كان ذلك هو غاية أمانيها ومنتهى مراميها ما لم تكن مجرد فاتحة خير ومقدمة ضرورية قبل الخوض في لب وعمق القضايا المشتركة التي من المؤكد لن تضع حداً لها رقابة على الحدود مهما عظمت قوتها ومهما تكاثر جنودها، كما أن الحديث عن مشروعات تنمية مشتركة في هذه المرحلة التي يعلم الطرفان أنهما لا يملكان لها شروى نقير رغم أهمية مثل هذه المشاريع وضرورتها، لا يعدو أن يكون حديث لسان قد يحتضنه الورق ولن يتنزل على الارض بشهادة الاوضاع المالية والاقتصادية بالبلدين، ولو كانت لهما القدرة فعلاً لكان أولى بفضلها أهل الدار قبل الجار. الطريق الى الخرطوم لابد أن يمر بدارفور، والعكس الطريق الى انجمينا لابد أن يمر بدارفور أيضاً، دارفور القضية وليس بالضرورة دارفور الحركات، ولمنطق بسيط هو أن القضاء على الحركات لا يعني القضاء على القضية، ولنا في الجنوب خير مثال، قمعنا ما أسميناه تمرد توريت فنشأت أنانيا ون، قضينا عليها نشأت أنانيا تو، وظلت قضية الجنوب حاضرة رغم اتفاقية أديس أبابا الى أن انفجرت بدوي هائل على يد الحركة الشعبية ولم يحلها إلا حوار وتسوية نيفاشا، التواضع على حل قضية دارفور وقضية المعارضة التشادية هو الحل الذي يمكن ان تشارك فيه تشاد السودان وليس التواطؤ على قهر تشاد لاولئك وقهر السودان لهؤلاء، ولكن قبل التواصي والتناصح على حلٍ عادل وناجز لابد أولاً من الاعتراف بالقضايا على حقيقتها حتى يتم أخذها بحقها بدلاً من تعليقها على مشاجب لا تقوى على حملها، مثل تعليق قضية دارفور على مشجب جمل أو غبن الترابي أو المؤامرة الدولية حتى لا تراوح القضية مكانها فتصبح حكاية جمل دارفور مثل حكاية التلميذ البدوي مع الجمل الذي لا يعرف شيئاً في هذه الدنيا مثله، كلما سأله معلمه سؤالاً لابد أن يدخل الجمل في إجابته، طلب منه مرة أن يكتب موضوعاً عن الربيع، فكتب: فصل الربيع من أجمل فصول السنة، تنبت فيه المراعي الخضراء مما يتيح للجمل أن يشبع من تلك المراعي ،والجمل حيوان بري يصبر على الجوع والعطش، ومرة سأله عن الصناعة والتقنية في اليابان، فأجاب: تشتهر اليابان بالعديد من الصناعات ومنها السيارات ولكن البدو في تنقلاتهم يعتمدون على الجمل والجمل حيوان بري.. الخ، وثالثة ترجاه أن يترك الجمل ويتحدث عن الحاسوب فلم يستطع من الجمل فكاكاً إذ قال الحاسوب جهاز مفيد يكثر في المدن ولا يوجد عند البدو لأن البدو عندهم الجمل والجمل حيوان بري... الخ