"ميتا" تهدد بوقف خدمات فيسبوك وإنستغرام في أكبر دولة إفريقية    بورتسودان وأهلها والمطار بخير    المريخ في لقاء الثأر أمام إنتر نواكشوط    قباني يقود المقدمة الحمراء    المريخ يفتقد خدمات الثنائي أمام الانتر    مليشيا الدعم السريع هي مليشيا إرهابية من أعلى قيادتها حتى آخر جندي    ضربات جوية ليلية مباغتة على مطار نيالا وأهداف أخرى داخل المدينة    الأقمار الصناعية تكشف مواقع جديدة بمطار نيالا للتحكم بالمسيرات ومخابئ لمشغلي المُسيّرات    عزمي عبد الرازق يكتب: هل نحنُ بحاجة إلى سيادة بحرية؟    فاز بهدفين .. أهلي جدة يصنع التاريخ ويتوج بطلًا لنخبة آسيا    بتعادل جنوني.. لايبزيج يؤجل إعلان تتويج بايرن ميونخ    منظمة حقوقية: الدعم السريع تقتل 300 مدني في النهود بينهم نساء وأطفال وتمنع المواطنين من النزوح وتنهب الأسواق ومخازن الأدوية والمستشفى    السودان يقدم مرافعته الشفوية امام محكمة العدل الدولية    وزير الثقافة والإعلام يُبشر بفرح الشعب وانتصار إرادة الأمة    عقب ظهور نتيجة الشهادة السودانية: والي ولاية الجزيرة يؤكد التزام الحكومة بدعم التعليم    هل هدّد أنشيلوتي البرازيل رفضاً لتسريبات "محرجة" لريال مدريد؟    إسحق أحمد فضل الله يكتب: (ألف ليلة و....)    الرئاسة السورية: القصف الإسرائيلي قرب القصر الرئاسي تصعيد خطير    عثمان ميرغني يكتب: هل رئيس الوزراء "كوز"؟    شاهد بالصورة والفيديو.. حسناء الشاشة نورهان نجيب تحتفل بزفافها على أنغام الفنان عثمان بشة وتدخل في وصلة رقص مؤثرة مع والدها    كم تبلغ ثروة لامين جمال؟    حين يُجيد العازف التطبيل... ينكسر اللحن    أبوعركي البخيت الفَنان الذي يَحتفظ بشبابه في (حنجرته)    شاهد بالفيديو.. في مشهد نال إعجاب الجمهور والمتابعون.. شباب سعوديون يقفون لحظة رفع العلم السوداني بإحدى الفعاليات    شاهد بالصور والفيديو.. بوصلة رقص مثيرة.. الفنانة هدى عربي تشعل حفل غنائي بالدوحة    تتسلل إلى الكبد.. "الملاريا الحبشية" ترعب السودانيين    والد لامين يامال: لم تشاهدوا 10% من قدراته    استئناف العمل بمحطة مياه سوبا وتحسين إمدادات المياه في الخرطوم    هيئة مياه الخرطوم تعلن عن خطوة مهمة    تجدد شكاوى المواطنين من سحب مبالغ مالية من تطبيق (بنكك)    ما حكم الدعاء بعد القراءة وقبل الركوع في الصلاة؟    عركي وفرفور وطه سليمان.. فنانون سودانيون أمام محكمة السوشيال ميديا    تعاون بين الجزيرة والفاو لإصلاح القطاع الزراعي وإعادة الإعمار    قُلْ: ليتني شمعةٌ في الظلامْ؟!    الكشف عن بشريات بشأن التيار الكهربائي للولاية للشمالية    ترامب: يجب السماح للسفن الأمريكية بالمرور مجاناً عبر قناتي السويس وبنما    كهرباء السودان توضح بشأن قطوعات التيار في ولايتين    تبادل جديد لإطلاق النار بين الهند وباكستان    علي طريقة محمد رمضان طه سليمان يثير الجدل في اغنيته الجديده "سوداني كياني"    دراسة: البروتين النباتي سر الحياة الطويلة    في حضرة الجراح: إستعادة التوازن الممكن    التحقيقات تكشف تفاصيل صادمة في قضية الإعلامية سارة خليفة    الجيش يشن غارات جوية على «بارا» وسقوط عشرات الضحايا    حملة لمكافحة الجريمة وإزالة الظواهر السالبة في مدينة بورتسودان    وزير المالية يرأس وفد السودان المشارك في إجتماعات الربيع بواشنطن    شندي تحتاج لعمل كبير… بطلوا ثرثرة فوق النيل!!!!!    ارتفاع التضخم في السودان    انتشار مرض "الغدة الدرقية" في دارفور يثير المخاوف    مستشفى الكدرو بالخرطوم بحري يستعد لاستقبال المرضى قريبًا    "مثلث الموت".. عادة يومية بريئة قد تنتهي بك في المستشفى    وفاة اللاعب أرون بوبيندزا في حادثة مأساوية    5 وفيات و19 مصابا في حريق "برج النهدة" بالشارقة    عضو وفد الحكومة السودانية يكشف ل "المحقق" ما دار في الكواليس: بيان محكمة العدل الدولية لم يصدر    ضبط عربة بوكس مستوبيشي بالحاج يوسف وعدد 3 مركبات ZY مسروقة وتوقف متهمين    الدفاع المدني ولاية الجزيرة يسيطر علي حريق باحدي المخازن الملحقة بنادي الاتحاد والمباني المجاورة    حسين خوجلي يكتب: نتنياهو وترامب يفعلان هذا اتعرفون لماذا؟    من حكمته تعالي أن جعل اختلاف ألسنتهم وألوانهم آيةً من آياته الباهرة    بعد سؤال الفنان حمزة العليلي .. الإفتاء: المسافر من السعودية إلى مصر غدا لا يجب عليه الصيام    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الجنوبيون في الشمال: شؤون وشجون الوحدة والانفصال
نشر في الصحافة يوم 15 - 06 - 2010

يقف السودانيون في الشمال وكذا في الجنوب من موضوع الوحدة والانفصال في مفترق طرق خطير، ولا يوجد بين هؤلاء استثناء إلا جماعة « الانتباهة» من جهة «وزمزمة» الاستاذ باقان اموم الانفصالية من الجهة الاخرى، فكلا الجماعتين قد حدد موقفه بكتابة جملة الانفصال، ووضع النقطة في نهايتها المؤشرة على تمام معنى الكلام ودلالته..
وأنا من الذين يحترمون مواقف الناس اذا كانت منطلقة من قناعات شخصية قوية، وليست قناعات «قطيعية» (من قطيع، وهي متابعة الآخرين بدون رأي شخصي) او اخرى «نعمتجية» (وهي ترداد ما يقوله الآخرون بطريقة الببغاء وقول نعم للحق والباطل).
للأخ الكريم ابو الشهيد ابوبكر، الباشمهندس الطيب مصطفى لا ازيد على ذكر موقف الداعية الكبير الاستاذ ابو الاعلى المودودي ، احد اساتذة دعاة هذا العصر عليه رحمة الله عندما عارض التيارات الوطنية الضيقة ولم يوافق على انفصال باكستان من الهند من منطلقات وقناعات اسلامية راسخة، فالهند التاريخية كانت امبراطورية اسلامية كما يعلم المؤرخون، ولهذا فهو لم يفقد الامل في عودتها الى اصلها. هذا الموقف جر على الداعية الكبير كثيرا من النقد والتجريح، ولكن المودودي صاحب قناعات عميقة قال بها ودافع عنها، وذهب الى ربه حيث ساحة المحكمة الكبرى التي لا تحتاج الى مدعي اتهام وشهود ومحامي دفاع، وابوالشهيد ابوبكر (واسمح لي ان اخاطبك بكنيتك) فيه شئ من صفات الاستاذ المودودي (وان لم يكن وحدويا مثله) وهي الاصرار والدفاع عن قناعاته بقوة.
اما الاخ باقان اموم الذي يقف في الخندق المقابل لخندق صاحب (الانتباهة) ، فأقول له ما قاله احد مزارعي الجزيرة في قريتنا (الجديد خليف )، (وليست الثورة كما اسماها احد قواد ثورة مايو)، وهي تقع حوالي 37 كيلومتر جنوب الخرطوم. فقد نصح هذا المزارع زميلا له ألا يشتري زاملة معينة لأنه يرى أن هذه الزاملة لا تقو على المشي في موسم الخريف والوحل ولكن الآخر اصر على شرائها، عندها قال له ساخرا: (بقابلك عند خمج الطين) والدلالة واضحة ان الزاملة (ستبرك) وتقف عاجزة عن المسير في الظروف الصعبة! قد يحتاج الاستاذ باقان لشرح بسيط لهذه الاستعارة metaphore واقترح عليه اسمين يختار منهما من يريده للشرح: احدهما الدكتور عبداللطيف سعيد بالمعهد الاسلامي للترجمة والآخر هو الدكتور عبداللطيف البوني الموجود بأماكن كثيرة فكلاهما من منطقة الجزيرة القريبة من قريتي ويفهمان مثل هذه الاستعارات جيدا.. اقول ان «خمج الطين» لن يبدأ في الجنوب بعد الانفصال، وانما هو حادث الآن.. لكني اتوقع ان يكون هذا «الخمج» نارا حامية بعيد الانفصال.
ولقد فهم ما ذهب إليه (الآباء المؤسسون).. للفكر والتيار السياسي الجنوبي من امثال سانتنيو دينق وسرسريو إيرو عندم عارض هؤلاء الانفصال من داخل الجمعية التشريعية عام 1948م، كما اعتقد. ومهما ادعى الاستاذ باقان ومدرسته انهم ليسوا خريجي مدرسة (الآباء المؤسسين) هذه وان مدرستهم هي الفكر المنحدر من خريجي جامعة ماكريري والآخر الذي تربى في حضن الاقطار التي تسمى الآن اقطار منابع النيل، يوغندا وكينيا وغيرها.. فإنهم لا يستطيعون ان ينكروا فضل مدرسة هؤلاء الآباء المؤسسين على الفكر السياسي الجنوبي - وهو وحدوي في الاصل - بنفس الطريقة التي لا ينكر بها الساسة الامريكيون منذ استقلال الولايات المتحدة وحتى اليوم تأثير مدرسة (آبائهم المؤسسين) من امثال جورج واشنطن وجون آدامز وتوماس جفرسون وبنجامين فرانكلين. غير اننا لا ندفع بهذا السبب السلبي في الدعوة للوحدة، اي تحذير الجنوب من الفتن الداخلية بعد الانفصال.. وان جنة (الجنوب) التي يتوقون إليها بعد الانفصال سيتحول نداؤها من (هلم الى جنتكم) سيتحول الى (أُنج سعد فقد هلك سعيد).. بدل هذا سندفع بالاسباب الايجابية لنداء الوحدة هذا، واهما اننا - رغم الاختلاف - شعب واحد ورغم الظلم الذي حاق بالطرفين من بعض، فإننا ننظر الى الخلف، وإنما ننظر الى الامام، ونعتقد بقوة اننا قادرون على تكوين بلد واحد نضرب فيه المثل للعالم اننا من التسامح وسعة الافق بحيث نجعل ما حدث وراءنا ، ولا ننظر الا الى قوة ارادتنا المدفوعة بمساعدة خالقنا على خلق امة واحدة يسود فيها العدل والمساواة .. نحن المسلمون نؤمن ايمانا قاطعا انه لا فضل لعربي على اعجمي إلا بالتقوى ولا على أبيض على اسود كما يقول رسولنا الكريم صلوات الله عليه وتسليمه .. واقول للاستاذ باقان : انظر الى الانجيل: ستجد فيه نفس المعنى لأن الكتابين او الوثيقتين من مصدر واحد كما هي قناعتنا، واظن انها قناعتكم ايضا.
اذهب من هذا الى لب الموضوع المضمون في هذه المداخلة، وهو بطريقة مباشرة يخص المليونين او اكثر من الجنوبيين الذين يسكنون بالشمال الآن، قبل حوالي الاسبوعين من الوقت الذي اكتب فيه هذه المداخلة وقفت بعد صلاة الجمعة في المسجد الذي يقع فيه مكان سكني وهو مسجد عمر بن عبدالعزيز بمربع 60 اركويت وتكلمت بانفعال شديد عن سلوك بعض السكان ودورهم في تحطيم و«تشليع» بعض العشش التي يسكنها جنوبيون جوار المنازل التي يوافق اصحابها على سكن هؤلاء، وذكرت ان ذلك السلوك «يطعن» في اخلاقنا وحتى في «رجولتنا» وما ندعيه من تسامح، وبعد الكلمة الموجزة جاءني بعض المصلين يناقشني في الامر، وكنت قد ذكرت اثناء حديثي اننا يجب ألا «نطرد» جنوبيي الشمال حتى ولو حدث الانفصال، وإنما نحرص على تثبيتهم كمواطنين بدولتنا فلجوئهم إلينا اثناء الحرب التي اشعلها اهلهم ضدنا يضرب اقوى الامثلة على تسامح السودانيين . هل يعقل ان يلجأ الهوتو الى بلاد التوتسي في حرب الابادة التي دارت بينهم ؟! وهل يعقل ايضا ان يلجأ البوسنيون الى بلاد الصرب اثناء حرب البلقان...؟!!
ان هذه الظاهرة فريدة في التاريخ، ولكنها - رغم التنويه بها - لم تعط ما تستحق من دلالة. الذين تكلموا معي في المسجد بعد مداخلتي القصيرة شريحة ممثلة للسودانيين، منهم من كان مديرا لمصلحة حكومية مهمة، ومنهم الجامعيون ، وآخر تاجر صاحب خبرة في الحياة والتعامل مع الناس. وبعض هؤلاء كان يرى ألا «يبيت» معنا الجنوبيون في الشمال ليلة واحدة بعد الانفصال..! ولأجمل واختصر الموضوع، فهذا الرأي منطلق من موقف عاطفي يغذيه العجز عن التفكير السوي، وهو فوق ذلك ضد المنطلقات الاسلامية والعدلية ، وضد مصالحنا الاستراتيجية ، غير انني اتصور ان كثيرا من المسؤولين في قمة الجهاز الحكومي والتنفيذي ربما ينطلقون من هذا الاتجاه الضيق..!
انني من هذا المنبر اوجه هذا الرأي بقوة للسيد رئيس الجمهورية بصفة شخصية وايضا للسيد نائبه، وهما شخصان اثق في تحليهما بالحكمة والأناة ان يصدرا قرارا واضحا منذ الآن ومشفوعا بأدلته - كالإقرار المشفوع باليمين كما يعرفه القانونيون - بأن المواطنين الجنوبيين في الشمال في حالة حدوث الانفصال يعتبرون مواطنين في بلدهم مهما أُطلق عليه السودان او الشمال، وتصدر في حقهم فورا الاوراق الثبوتية الدالة على ذلك.. إنني اعتبر هذا الاجراء اقوى العوامل واكثرها فعالية في ان يعيد البلدان المنفصلان النظر في امر الوحدة حتى بعد الانفصال، اما اذا كان قرار الاستفتاء للوحدة ، فهو ما نريد .. كم من سنة مضت وقطيعة مؤقتة حدثت بين ألمانيا الغربية والشرقية ثم دعتهما عوامل الوحدة للرجوع بعد القطيعة .. وأنا اجزم ان هذا سيكون مصير الكوريتين ، فالقطيعة بين هؤلاء واولئك مفتعلة وصورية artificial - وربما يظن البعض ان المقارنة بوضعنا ليست في محلها لوحدة اللغة والنسيج الديني والثقافي بين الألمانيتين والكوريتين وانعدامها في حالنا. ولكنني اعتقد غير ذلك فالتاريخ والمعايشة قد غزت عوامل الوحدة بين الشمال والجنوب وحلت محل اللغة والإرث الحضاري، فنساء الجنوب اليوم في الشمال يلبسن الثوب السوداني ورجالهم يلبسون الجلابية والعراقي وبعضهم اعتنق الاسلام ، والآخرون قد قطعوا اكثر من نصف الطريق الى ذلك.
اتوقع اذا تم الانفصال بعد الاستفتاء ان تحدث زوابع ورعود ومن هذه الزوابع امتناع كثير من قادة الجنوبيين من اتخاذ الجنوب موطنا لهم من امثال الدكتور لام اكول وغيره كثيرون من الذين لهم تحفظات على فلسفة ومنطلقات الحركة الشعبية لتحرير السودان، إنني اتنبأ ان هؤلاء سيصفون جسديا اذا اتخذوا الجنوب موطنا لهم بعد الانفصال اللهم إلا اذا «دخلوا الغابة» للمرة الثانية ، وفي هذا استحالة من القوة بمكان بحيث انها استحالة وجودية existential - فالمناضل والثوري لا يستطيع ان يدخل الغابة مرتين بنفس الطريقة التي اعتقد بها الفيلسوف اليوناني «أرستوفينس» ان الانسان لا يستطيع ان يقفز في النهر مرتين لنفس السبب الوجودي المذكور حيث ان النهر عند القفزة الثانية سيكون غير النهر وهذه قصة شرحها يطول... فعولن مفاعيلن فعول مفاعيل..
مثل الدكتور لام أكول وغيره كثيرون يجب ألا يُعتبروا لاجئين بدولتنا ، وانما هم مواطنون أصليون .. إذا احبوا حمل جوازات سفر دولة الجنوب فهم وما يريدون ، ولكن حقهم الاول في حمل جوازات بلادنا لأننا نسمح بازدواجية الجنسية . واذا اعترفنا «سياسيا» بالدولة الجديدة في الجنوب، فنحن لا نعترف «معنويا» بانفصالها عن جسدها الأم. ولذلك نقيم سياستنا على ذلك اليوم الذي تعيد فيه الاطراف النظر في كل شئ وتتجه نحو الوحدة الطوعية الابدية.
لقد قامت الآن مفوضية برئاسة الاستاذ محجوب محمد صالح لرعاية امر الوحدة والدعوة لها. وقد اتخذ قرار بأن تتحول اللجنة التي يرأسها المشير سوار الذهب لجهة تدعم الوحدة حيث كان منوط بها ترشيح المشير البشير لرئاسة الجمهورية.
ومع احترامي لجهود الجهتين فإنني على قناعة راسخة بأن اهدافهما لن تكون ممكنة بدون اصدار هذا الامر الجمهوري الخاص بإعلان ان المواطنين الجنوبيين في الشمال مواطنون في دولتنا في حالة الانفصال ،، وهذا لا يحتاج لتنسيق بين الشريكين لأنه يخص سيادة دولتنا بعد الانفصال وليس قبله، يجب الا تسمح الدولة بترحيل جنوبيي الشمال بصورة قسرية، اما من يختار الذهاب للجنوب فهو وما يختار. يجب ان تدافع الحكومة عن هذا الحق حتى بالسلاح. اكثر الدعوات للوحدة الآن عبارة عن «سكلي» و «ووب ووب» مثل نياح النساء الموتورات في عزيز عليهن، وهذا لا يجدي شيئا. الذي يجدي هو الحزم في هذا الامر، ووجود مليونين او اكثر من مواطني الجنوب في الشمال من مختلف القبائل من اكبر عوامل الضغط على الدولة الجديدة - في حالة وجودها - الى اعادة النظر في الوحدة الطوعية.
اذا كان هنالك من نصيحة تزجى للشماليين والجنوبيين في اطار هذه المداخلة ، فهي محاولة التخلي عن «العنصرية» و «الجهوية» التي انتشرت هذه الايام ! فهي في نظري تفاحة «إبليس» التي تسببت في طردنا من الجنة ونزولنا الى الجحيم الذي نحن فيه الآن...!! وهذه «العنصرية» هي كعب أخيل HEEL OF ACHILLES الخاص بنا والتي ستؤدي الى هلاكنا كما ادت الى هلاك آخيل إن لم نتخلَ عنها.
«دعوها فإنها منتنة» كما يقول المصطفى عليه افضل الصلاة والتسليم. تحكي الاسطورة اليونانية ان البطل اليوناني المحارب آخيل - ACHILLES- قد غمسته امه عند ولادته في نهر مقدس يُكسب الحماية الأبدية من الاصابة بالسلاح، وكانت تمسكه من طرف كعبه الذي لم تمسه الماء، فكان هلاكه في الحرب بالطعن في تلك الجهة التي لم تلمسها الماء على يد الفارس الطروادي «هكتور» في ال «ODYSSEY» ملحمة الشاعر اليوناني HOMER . العنصرية ليست هي دائما عنصرية الابيض ضد الاسود ولا العربي ضد الاعجمي ، هنالك العنصرية «المعقوفة» او «المقلوبة» وهي امتلاء الاسود بالكراهية غير المبررة لكل البيض وامتلاء الاعجمي بالكراهية غير المبررة لكل العرب، وهي معروفة اصلاحا ب INVERTED RACISM . اما ما اعلمك وما احلمك يا رسول الله فقد ضمنّت هذا المعنى العميق في حديثك عن الثلاثة الذين لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم وهم الشيخ الزاني والحاكم الكذاب والعانس«الفقير» المتكبر.. فهذا الفقير المتكبر يزاول التكبر «المعقوف» او «الملتوي» او «المعكوس» وهو ما يوازي العنصرية «المقلوبة» اي عنصرية الاعجمي على العربي وعنصرية الاسود على الابيض غير المبررة، وقس عليها كل اشكال وانواع التحيز والعنصريات متعددة الاشكال والالوان . ان المكون النفسي الموازي للعنصرية هو «التكبر» .. وكما في الأثر الصحيح فقد كتب ربنا على باب الجنة انه لن يدخلها «متكبر» . وفي الانجيل ان الأرض سيرثها «خافضو الرؤوس تواضعا ولينا - الذين لا يستنكفون عن خدمة عباد الله» : The meek shall inherit the earth
Those who stand and serve.
ويعادل هذا عندنا نحن المسلمين قول الله تعالى «ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر ان الارض يرثها عبادي الصالحون».. الانبياء 105.
اختم مداخلتي هذه بمقطعين - الأول والأخير - من قصيدة الشاعر الامريكي «روبرت فروست (1874 - 1963) Robert Frost ذات الدلالة الفلسفية العميقة والخبرة فيما يختاره الناس ويتركونه، ولروبرت فروست سطوة فائقة على حبك المعاني واختيار الالفاظ من قبيل «السهل الممتنع» للتعبير عن هذه المعاني ، وعنوان هذه القصيدة يمكن ترجمته ب «الدرب الذي اخترنا تجنبه» Road Not Taken وهذا الدرب ارجو ان يكون هو درب الانفصال:
The Road Not Taken
Two roads diverged in ayellow wood and sorry I coukd not travel both and be one traveler , long Istood and looked down one as far as I could to where it bent in the undergrowth
ويختم Frost قصيدته بالمقطع:
Ishall be telling this with asigh some where ages and ages hence two roads dverged in awood , and I,Itook the one less trveled by, and that has mde all the difference.
وارجو ان يسعدني زميلي ورفيقي في (الاغتراب) ! من ولاية الجزيرة الى «دار الغربة» في العاصمة القومية الخرطوم..!! بترجمة قصيدة Frost الى العربية، فهو ليس مترجم حاذق فحسب، ولكنه شاعر فحل مجيد، هو الدكتور عبداللطيف سعيد ..
حاشية على المتن:
أخذت كنية الاستاذ الطيب مصطفى من الدكتور ربيع عبدالعاطي عبيد صاحب العمود الراتب «بالانتباهة»، وهو بهذه المناسبة احد تلاميذي في مرحلة الماجستير، وبهذا فإنني قد علمته الرماية، لكنه عندما أجادها رماني...!! ما يميز عطاء د. ربيع في مجال التعليق السياسي بالفضائيات الدولية او الكتابة الصحفية انه يزن كلماته، فهي لا تتجاوز افكاره . ود. ربيع خبير في مجال النزاعات الدولية وفضها، وهو مجال نادر عندنا، وهو الآن ليس بتلميذ لي... ولكنه صديق.. ألتمس ايضا من الاستاذ مدير التحرير - في حال نشر هذه المداخلة ، ان يثبت عبارة انني من ولاية الجزيرة و «مغترب»! بالعاصمة القومية الخرطوم، فأنا ارتب على هذه العبارة معنىً فلسفياً غربتي هي (غربة الراعي) وهي غربة (وجودية).. existential - ليست مثل وجودية الفيلسوف الفرنسي سارتر ولا تلميذه البيركامو المولود بالجزائر ، ولكنها قريبة - وليست متطابقة - مع غربة العلامة وشيخ النقاد العرب في القرن العشرين البروفسر إحسان عباس رحمه الله. وقد درَّس إحسان بجامعة الخرطوم في بداياتها وفي سيرة حياته التي اسماها «غربة الراعي» ذكر السودان بخير كثير حيث اثبت ان احسن فترة في حياته قضاها في السودان.
وهذا موضوع طويل، ولكنني اشير الى انني ايضا قد رعيت الغنم - غنم والدي - بقرية الجديد شمال الجزيرة في الطفولة، واعتز بذلك اشد الاعتزاز لأن ذلك يربطني بالمصطفى عليه أفضل الصلاة والتسليم.
- اللهم إنك قد سميت نفسك الشهيد، وأنت شهيد على أقوال وأفعال خلقك ، اللهم أشهد على ما قلت ، حسبنا الله ونعم الوكيل ولا حول ولا قوة إلاّ بالله.
٭ سوداني من ولاية الجزيرة «مغترب» في العاصمة القومية الخرطوم


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.