أعتقد أن نمط العمل التقليدي لموظف في العقود الأخيرة من القرن الماضي، قد تغير كثيراً. الموظف الذي يعود باكرا من العمل حاملا (بطيخة) في إحدى يديه وفي الأخرى صحيفته اليومية، كان لديه متسع من الوقت ليتناول وجبة غدائه مع اسرته قبل أن (يحبس) بكوب شاي وهو يستمع الى برنامج عالم الرياضة العريق من إذاعة هنا أم درمان. قبل ان يستكمل نشاطه المسائي بحضور مباراة في الحي أو دار الرياضة او مسامرة الأصحاب. في ظني أن ذلك الزمن المبارك قد ولى دون عودة. مع تطور أساليب التقنية المختلفة في نهايات القرن الماضي ظهرت لنا مفاهيم العمل على الحاسوب عبر تقنيات البريد الإلكتروني والمايكروسوفت ماسينجر والأنظمة المختلفة. إضافة الى تطور كبير جداً في أجهزة الحواسيب المحمولة (اللاب توب) فازدادت ساعات العمل وتغول على الزمن الخاص للموظف. إن كمية العمل التي يقوم بها موظف ما بصورة يدوية تقل كثيراً عن كمية العمل التي يؤديها بصورة إلكترونية. يزداد الأمر تعقيدا بحمل الموظف لعمله إلى المنزل بواسطة جهازه المحمول (اللاب توب) حيث ساعد في ذلك توفر شبكة الإنترنت في كل مكان. مع فلسفة المتفلسفين… وحذلقة المتحذلقين… وعبقرية المجانين..تم اختراع الهاتف الذكي أو ال Smart phone ليبقى فعلياً الموظف حاملا لعمله في كل مكان.. المخترعون هؤلاء اعتقدوا بحسن نية أنهم يريدون تسهيل الحياة… فاذا هي تصبح أكثر تعقيدا.. تخيل ان مشاكل العمل… وإيميلاته وتطبيقات المتابعة… وزملاء العمل يكونون حاضرين معك في كل مكان… في غرفة النوم… في المقهى… وربما في الحمام… وكذا في أي وقت.. نهارا… ليلاً..في عطلة نهاية الأسبوع… فعليا العمل أصبح أربعاً وعشرين ساعة … لا تستعجب ان وجدت موظفا مخبولا في مكان ما يقرر إشعال حرب الايميلات فجراً … ليرد عليه آخر منافحا ومدافعا.. فيتدخل المدير لحسم الأمر…حينما تستيقظ تجد ان هاتفك المحمول به العشرات من الايميلات والردود المختلفة لتتساءل بينك ونفسك هل انقلب هؤلاء الموظفون الى زومبي؟؟… هل أصبحوا مصاصي دماء في ليلة قد اكتمل فيها القمر؟.. فليراعوا مشاعر البشر من أمثالنا والذين يعملون نهارا وينامون ليلاً … لاشك ان البعض قد أوصله العمل حافة الجنون!!! مع ظهور الضيف السخيف (كوفيد 19 بن كورونا) تطور العمل الى أسلوب جديد سمي بالعمل من المنزل working from home. العديد من الوظائف الإدارية والتسويقية والخدمية وحتى التعليمية قد لا تحتاج لأكثر من جهاز حاسوب وشبكة إنترنت ونظام حاسوبي محكم لتنظيم العمل في دولة ذات بنية تحتية قوية كالتي أقيم فيها. ان موظفة خدمة العملاء التي تقدم لك الدعم الفني والذي تحتاجه في واقع الحال هي تخاطبك من منزلها. حتى إذا ما سمعت أصوات أطفال يصرخون في الخلفية وسمعت جدتهم تنهرهم حتى يتركوا أمهم تعمل لا تستعجب!!. هذا زمانك يا كورونا فامرحي. أقسام الموارد البشرية (HR) والمسؤولون عن زمن حضور وانتهاء فترات العمل وكل ما يخص العاملين ينظرون الى الموظفين على أنهم جملة من (المستهبلين) والذين لا يؤدون عملا يذكر من منازلهم بمقارنة العمل المكتبي المعتاد والذي هو تحت سمعهم وبصرهم. الموظف في مخيلتهم أنه مجرد (رقيع) يريد ان يتقاضى أجرا دون كثير عناء فما بالك لو أنه يعمل من منزله. اعتقد أنهم منذ اللحظة الأولى لقرار العمل من المنزل قد لطموا الخدود وشقوا الجيوب ودعوا بدعوى الجاهلية. ولذلك فقد عمدوا الى زيادة الأعباء والتكاليف بأكثر من المعتاد ولربما زادوا عدد ساعات العمل. حتى يتمنى الموظف العودة لمكتبه بأعجل ما تيسر. ليجعلوا الموظف (يتحسبن) على كل من كان له بصمات في مسيرة العمل التقني حول العالم ولسان حالهم يقول حسبنا الله فيك يا ستيف جوبز… حسبنا الله فيك يا لورانس باينج وأخوك سيرجي براين… حسبنا الله فيك يا جان كوم… حسبنا الله فيك يا مارك زوكربيرج . أعتقد أن أيام الموظف الطيب (صاحب البطيخة والصحيفة اليومية) قد ولت بلا رجعة.