اطلعت على الدفوعات التي ساقها الأستاذ الجليل/ "محمد الشيخ مدني " وزير التربية والتعليم في مطلع حكم الإنقاذ البائد وهو أحد منظري ومنفذي تجربة "المدارس النموذجية" التي طبقت بولاية الخرطوم في تسعينات القرن الماضي وتناولها بالتعليق أيضاً الأستاذ/ أحمد المصطفى في عموده "استفهامات" بصحيفة السوداني "بتاريخ الإثنين الموافق 5/10/ 2020 م"، وسأختصر تعقيبي على الدفوعات التي ساقها الأستاذ/ محمد الشيخ ومطالبته ببقاء التجربة عطفاً على المكاسب التربوية التي حققتها وهي في تقديري دفوعات لا تستند إلى منطق أو علم وليس بإمكانها أن تقنع شخصاً عادياً من عامة الناس دعك من إقناع أهل الاختصاص والخبرة ومعلمي الميدان وحددها بأهمية أن ترعى الدولة نوابغها وتميزهم بمدارس خاصة مع أداء تحصيل حاصل لبقية المدارس الحكومية الأخرى التي سموها "المدارس الجغرافية"، ومنها البحوث التي أجريت والتي أكدت تفوق طلاب المدارس النموذجية على الجغرافية في المرحلة الجامعية، وهذا أمر طبيعي يا أستاذنا الجليل محمد الشيخ طالما أنك أخذت زبدة المدارس وحصرتهم في مدارس بعينها وهذه نتيجة حتمية لا تحتاج إلى بحوث أو خلافه، فالشيء غير الطبيعي ألا تحدث هذه المخرجات،وألا يُجرى بحث أو تقويم للنتائج الكارثية التي أحدثتها في مجمل أداء المنظومة التعليمية ومن مبرراته أيضاً إعادة الهيبة للتعليم الحكومي ؛ هذا ملخص دفوعات "الأستاذ/ محمد الشيخ مدني" دون أن يذكر السلبيات الكثيرة والمخيفة والخطيرة التي صاحبت التجربة وأوصلت تعليمنا العام إلى المستوى المتردي الماثل أمامنا الآن ؛ فالمدارس النموذجية كما يزعم الأستاذ/ محمد الشيخ أن أحد مبرراتها القوية إعادة الهيبة للتعليم الحكومي في مجابهة " التعليم الخاص" لتحتكر بدلاً منه درجات التفوق ويُذاع طلابها ضمن المائة الأُوّل في نتيجة امتحانات "الشهادة الثانوية" فأي هيبة يمكن أن تعاد للتعليم الحكومي وأنت ترسّخ مبدأ التعليم الصفوي في أبشع صوره وتداعياته وتترك بقية التلاميذ وهم الفئة الغالبة يدرسون في ما يسمى "بالمدارس الجغرافية" التي تفتقر لأبسط مقومات الدراسة؛ وإذا كان الأستاذ مدني يقصد رعاية النوابغ والموهوبين نقول له إن نوابغ ومواهب السودان ليسوا محصورين في "سنتر الخرطوم " وهناك فرق شاسع بين معايير الموهبة ومعايير التفوق الأكاديمي وحتى هذه الرعاية التي يقصدها لا تُطبّق بذات الطريقة التي طُبقت في عهده أيضاً بصورة شائهة لأن رعاية الموهوبين تدخل في دائرة الأمن القومي وتحتاج إلى سرية ومراجعة ومعايير علمية دقيقة للاختيار وتقويم مستمر حتى تؤدي الدور المنوط بها، وهناك أيضاً فرق كبير بين فكرة المدارس القومية (حنتوب وخور طقت ووادي سيدنا) التي كانت تضم أبناء الطبقات كافة وفكرة المدارس النموذجية لأن التاريخ والنتائج تشهد أن مدارسنا الثانوية الحكومية في أقاليم السودان كانت تؤدي أداء متوازناً وترفد المتفوقين والأذكياء وأوائل الشهادة الثانوية في كل عام في وجود هذا الثلاثي الذهبي. المدارس النموذجية أفضت إلى الانتشار السرطاني للمدارس الخاصة غير مكتملة المعايير التي تستمد نجاحها ووجودها من الهجرة المعاكسة لمعلمي المدارس الجغرافية أثناء اليوم الدراسي، وإذا تساوت جميع المدارس الحكومية في الحقوق والواجبات دون مسميات أو تمييز واستحدثت لائحة تضبط أداء معلمي التعليم الحكومي فستغلق كثير من المدارس الخاصة العشوائية أبوابها وستدب الحيوية وتعود الهيبة للمدارس الحكومية كما كان يحدث في السابق. المدارس النموذجية أحدثت أثراً نفسياً سالباً لدى معلمي المدارس الجغرافية وهم الفئة الغالبة من معلمي التعليم الحكومي من خلال خصوصية التعامل ؛ وهذا أدى بدوره إلى شعورهم بالإحباط ؛ لأنهم يتعاملون مع طلاب صنفتهم قياداتهم التربوية طلاباً من الدرجة الثانية، وكل هذا خصم على العملية التربوية التعليمية ؛ وانعدام لمبدأ تبادل الخبرات وتكافؤ الفرص العادلة بين المعلمين ونقل خبراتهم التعليمية لجميع الطلاب. المدارس النموذجية أحدثت هزة نفسية عميقة في نفوس طلاب المدارس الجغرافية وحرمتهم من نظرية الاحتكاك والتأثر واكتساب الخبرات بالرفقة الطيبة للطلاب المميزين. المدارس النموذجية أضعفت الإدارات المدرسية، وعمت الفوضى في المدارس الجغرافية وأُهملت الأنشطة اللاصفية وأطلقت العنان لمديريهم وأسقطت عن كاهلهم الكثير من المهام التربوية، هذا فضلاً عن الهاجس الاجتماعي الرهيب للأسر والضغوط النفسية لبعضهم من جراء إصرار أبنائهم بالرغبة الملحة للانتساب لمدارس نموذجية بعينها، كما أدت إلى هجرات عكسية للأسر من الولايات إلى الخرطوم للانتساب لمدارس نموذجية بعينها. المدارس النموذجية غيرت التركيبة "الديموغرافية " للمجتمع والتنافس على القبول في الكليات المرموقة في الجامعات حيث أصبحت حكراً على أبناء المدارس النموذجية ؛ علما أن النسبة الغالبة من طلاب هذه المدارس من أبناء الطبقات المقتدرة باعتبار أن النجاح والتفوق في هذه المرحلة العمرية يعتمد على الاستقرار الاقتصادي للأسرة، وتوفر البيئة المدرسية الملائمة والمعدومة تماماً في المدارس الجغرافية ؛ فجسدت بذلك مبدأ التفرقة بين معلمي المرحلة الثانوية وخلقت فوضى وتسيباً في أوساط معلمي المدارس الجغرافية وجعلتهم يتعاملون مع مدارسهم بطريقة المحاضرين وذلك بالعمل في عدة مدارس خاصة دون رقيب أو حسيب كما أتاحت فراغاً كبيراً لمعلمي الكيمياء والفيزياء والأحياء والرياضيات المتخصصة في المدارس الجغرافية على اعتبار أن معظم طلاب هذه المدارس يساقون للمساق الأدبي قسراً لعدم توفر هذه التخصصات في مدارسهم الجغرافية فأتاح هذا الفراغ لمعلمي المدارس الجغرافية بأن نشطوا في "الدروس الخصوصية" والتعاون مع المدارس الخاصة أثناء اليوم الدراسي (تسيب مع سبق الإصرار والترصد). المدارس النموذجية تفرض رسوماً باهظة على القبول الخاص داخل هذه المدارس والأفظع من ذلك أن عدد الطلاب المقبولين في هذه الفصول يفوق عدد الطلاب المقبولين بالمجموع النموذجي ووصلت بهم الجرأة وعدم الحياء أن حولوا مدارس وقفية منحها أصحابها للفقراء والمساكين وسموها بأسماء مدارس نموذجية مشهورة لتدر أكبر قدر من الأموال ؛ مستغلين في ذلك جهل الطلاب وأسرهم وإيهامهم بأن المدارس النموذجية تملك طوق النجاة لنجاح أبنائهم وتفوقهم، علماً أن معلميهم منتسبون لوزارة التربية والتعليم ولا توجد ميزة تميزهم عن بقية المعلمين -لا في التخصص ولا في القدرات – اللهم إلا بيئة مدارسهم ونبوغ وذكاء بعض طلابهم والاستفادة من هامش الأرباح التي يتلقونها من عائد القبول الخاص، علماً أن المعيار الحقيقي لتميز المعلم الجاد من غيره قدرته على نجاح وتفوق الطلاب الضعاف وليس التعامل مع بعض الطلاب المتميزين… مدارس ثانوية كثيرة كانت ملء السمع والبصر جرفتها هذه التجربة "اللعينة " إلى متاحف التاريخ فأصبحت أثراً بعد عين؛ ليبقى السؤال المشروع أين تذهب المليارات التي تُحصَّل من رسوم القبول الخاص في داخل هذه المدارس وإلى أين توجه ؟!! أما الأولى بها إصحاح بيئة المدارس الجغرافية التي تفتقر لأبسط المقومات بدلاً من ان تستأثر بها النموذجيات وحدها والدائرون في فلكها ؟، وهل يعلم طلاب القبول الخاص وأولياء أمورهم أنهم خارج إطار النتيجة الرسمية للمدرسة وأنهم يعاملون معاملة طلاب اتحاد المعلمين أو طلاب المنازل ؟ وهل سبق أن أذيع أحدهم ضمن المائة الأُوّل في نتيجة الشهادة الثانوية رغم الملايين التي يدفعونها ؟ ولماذا لم تمنحهم النموذجيات صكوك التفوق وتضييق الفجوة الأكاديمية والتباين وسط طلابها دون تفرقة أو تميز وتضع بصمتها عليهم مثلهم مثل الرسميين ؟؟ هذا لعمري خدعة مجتمعية كبرى وتحايل على القانون والأعراف وتجاوز أخلاقي لا يليق بأهل التربية !!، وأخيراً نعود إلى الأستاذ/ محمد الشيخ مدني بلغة الأرقام والرياضات وقانون الاتزان المادي والرباني (ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين) ومبدأ الفروق الفردية عرف تربوي معروف في الممارسات التعليمية فإذا رجحت في المعادلة كفة السلبيات على الإيجابيات فهذا يعني أن هناك خللاً في الممارسة وإذا تساوت الكفتان فهذا يعني أن التجربة (المعادلة) في حالة اتزان وإذا قارنا كل هذا على أرض الواقع نجد أن الإيجابيات التي تنتج من إلغاء التجربة تغلب على السلبيات المدمرة التي أفرزتها وهذا ليس بغباء كما وصفها الأستاذ محمد الشيخ وإنما الحكمة تقتضي إجراء تقويم شفيف لتجربة تعليمية فاشلة طال بها العهد وأحدثت كل هذا الخراب وكما هو معروف أن التقويم هو القاطرة التي تجر قطار التعليم نحو تحقيق الجودة والإتقان وكل هذا ما كان له أن يحدث ونتحدث عنه اليوم لولا أننا نتمتع بقدر كبير من الحرية والشفافية ومناقشة هموم الوطن في الهواء الطلق دون حجر لرأي أو مصادرة لفكرة كما كان يحدث طوال فترة النظام الإنقاذي البائد.