ليس صحيا أمنيا أو سياسيا أو مجتمعيا أن يحصل المجتمع على جثة شاب بعد أيام من اختفائه قسريا لدى جهة عسكرية. ذلك لم يكن ليحدث، ربما، في أكثر فترات الشمولية استبدادا وطغيانا، فذات الشاب وأبناء جيله هم الذين صنعوا الانتقال والتحوّل الذي يسيطر فيه هؤلاء العساكر الذين أرسلوه إلى الدار الآخرة. لا يختلف ذلك الواقع المتناقض مع تلك العبارة التي توجد أسفل تمثال الحرية الذي يتجه ببصره ويشير إلى أوروبا، حيث كُتب أعطوني كل من عندكم من المضطهدين في الأرض والمظلومين والمتعبين ولكن إذا كان ذلك لسان الحال في وطن حر ودولة مدنية، فقد ازداد الاضطهاد والظلم، وتم التحوّل إلى دولة بوليسية كاملة الأركان. أسوأ حصاد يمكن أن يحصل عليه الشعب السوداني من هذه الثورة أن يجد نفسه بعد هذا المشوار السياسي والثوري في مواجهة دولة بوليسية وقمعية، فكأنما دار حول نفسه ووجد تلك الدولة كانت خلفه. تلك الدولة قبيحة وسيئة تنشط فيها المعتقلات والاعتقالات، يختفي فيها الناس وقد يعودون ولا يعودون. تلك الدولة البوليسية تعبث فيها أجهزة أمنية مثل السافاك في حكم الشاه، وأجهزة الأمن السياسي في عهد عبدالناصر، وللمفارقة لم تنجح في تعزيز منظومة الحكم وإنما خلفت إرثا من المرارات والأحقاد، ودماء ذهبت هدرا، وأرواح أزهقت بلا جدوى. لم يعد هناك إمكانية لانبعاث الدولة البوليسية في أي مكان في العالم، ومن يبحث عنها وهو في السلطة فهو بلا شك خارج سياق التاريخ، أو يحسب أن العالم الذي يسيطر فيه على السلطة لا يتعدّى مكتب مخبوء في وحدة عسكرية. خرجت الدولة البوليسية من المفاهيم السياسية مع انتهاء الحرب الباردة، ولم يعد القمع أو الطغيان وسيلة أو سلوكا مناسبا ومتناسبا مع حكم الشعوب. وهي دولة أشبه بمرض سلطوي وسياسي تم إيجاد اللقاح له ووضعه العالم خلف ظهره. وحدهم أولئك الذين يمارسون حالة قمعية أو خارج الإطار القانوني لم يقرأوا نهايات الدولة البوليسية وانتهاء آجالها السياسية. لذلك ما حدث ويحدث من حالات إجرامية تكشف عن سوء قراءة لفكرة حكم الدولة وتكافؤها مع مقتضيات الثورة التي صعدت بكل سياسي وعسكري إلى أعلى هرم السلطة. الدولة البوليسية التي يلح في طلبها بعض الذين يمسكون بالسلطة تتناقض تماما مع الحالة الثورية التي أنشأت الدولة الانتقالية الهجين. أولئك الذين تم اختطافهم وتعذيبهم وقتلهم هم الذين صنعوا السلطة القائمة، ولا يمكن إرهاب الناس بمثل هذه النزعة الإجرامية التي لا تتوافق مع الدولة سواء كانت مدنية أو خلافه. غرور العساكر وزهوهم بالسلطة إنما هو حالة طارئة وظرفية ينبغي ألا يسرفوا في النظر إلى أنها الحالة النهائية للدولة التي يمكن أن تتشكل، ففي ذلك قصور وضيق أفق لا يمنحهم حق ممارسة أي دور خاصة في مرحلة انتقالية تحتاج دراية ورؤية وفهم لحسن إدارة الدولة وممارسة السلطة. تحويل السلطة في الفترة الانتقالية إلى شكل من أشكال الدولة البوليسية إنما هو عبث مؤكد بكامل هيكل الدولة وحق المواطنين في عبور سهل إلى حكم مدني وقانوني رشيد لا يجد فيه أصحاب نزعة متسلطة أو إجرامية إمكانية لأداء دور فاسد في المشهد السياسي لا حاضرا أو مستقبلا. لماذا تظهر الدولة البوليسية في واقع معقد مثل الواقع السوداني الحالي؟ لا مبرر لذلك مطلقا غير القصور المعرفي لدى قطاع عسكري يمتلك سلطة معقدة دون سند قانوني أو معرفة قانونية بإجراءات الدولة في الأحوال الطبيعية المعتبرة أو الطارئة والعرفية، وذلك يعني في حال عدم كبحه والسيطرة عليه تأزيم للمواقف، وتعقيد للارتباط الشعبي بالهرم القيادي. ثم إن الدولة البوليسية مأزومة أصالة ومهزومة ومهزوزة ما يجعلها عنيفة وعدائية ومتوحشة، وهي حالة منفرة لا يمكن القبول بها، فلا يمكن للشعب أن يخرج ما بين كل فترة وأخرى ليواري أبناءه الثرى لأنهم اختفوا ثم تسلم جثثهم من هذا الجهاز السياسي أو ذاك الجهاز العسكري. تلك دولة فوضوية لا يمكنها البقاء، وقد سبقت تجاربها إلى نهايات سيئة ومأساوية، وهناك حاليا توتر شديد في علاقة الشعب بالسلطة بشقيها المدني والعسكري. المدني لا يزال تائها برغم وفرة أوراق اللعب لديه غير أنه لا يعرف كيف يلعب بها، والعسكري هارب للأمام يرغب في السلطة دون أي فرص حقيقية لأن يطالها. حينما يدور الشقان المدني والعسكري حول نفسيهما بهذا الأسلوب فإن فرص نشوء أو ظهور دولة بوليسية أو عميقة أو دولة ظل، تزدهر وتكون أكبر. وفي حالة أخرى ينشأ صراع مؤكد بين مراكز قوى صاعدة أو انتهازية ليكتمل المشهد الفوضوي والعبثي، وحينها تصبح مثل حالة جريمة مقتل ذلك الشاب أمرا مكررا. ما يحدث حاليا من مشكلات وأزمات أمنية وسياسية واقتصادية يعود بالدرجة الأولى إلى تنازع معقد حول السلطة. لا يرغب المدنيون في الاعتراف بضعفهم رغم السند الجماهيري الذي يمنح المناعة الطبيعية لأي مسؤول كفؤ وموضوعي في ممارسته الوطنية، كما أنهم لا يظهرون تلك الكفاءة الحقيقية التي تؤهلهم لممارسة السلطة بكل تشابكاتها. يتنازع المدنيون حول استحقاقات ظرفية لا تأتي لبعضهم في الحالة الديموقراطية الكاملة، ولا يرغبون في أن ينكشفوا بعيدا عن غطاء الفترة الانتقالية لذلك يقاتل بعضهم بكل قوته لأن تمتد الفترة الانتقالية لأطول فترة بحجج واهية لا تعدو أن تكون طلاء لصدأ أو تشوهات في برامجهم السياسية والاقتصادية وقبولهم الشعبي. بالنسبة للعسكر فالوضع أكثر تعقيدا لأن السلطة الفعلية والحقيقية بيدهم، فيما لا يملكون الرؤية السياسية التي تجعلهم يديرون الدولة بما يتناسب مع مطالب الثورة وثوارها، وهم لم يحصلوا على تفويض أو شيء مماثل لأداء أي دور سياسي مدني. يزداد التعقيد لدى العسكر بالعامل الدولي الذي يضغط بانزياحهم من المشهد السياسي والاقتصادي، وإن لم تكن هناك ممانعة من دور غير مباشر، ولعل القرارات الأمريكية الأخيرة من الوضوح بما يضعف أي دور سياسي للمؤسسة العسكرية والعسكريين الجدد الذين يمارسون عملا اقتصاديا إلى جانب السياسي والأمني. المحصلة من الواقع الحالي أنه لا يمكن قبول دولة بوليسية جديدة، وكل الأخطاء الكارثية التي تحدث إنما هي مؤشرات على سوء الدور العسكري في العمل السياسي في دولة انتقالية يحدث فيها افتراق هائل بين الشعب والمؤسسات العسكرية التي تمارس هذا النوع من الاستبداد والإجرام الذي لا يمكن إعادة إنتاجه على الإطلاق.