لجنة ازالة تمكين نظام الانقاذ، مهما اثير حولها من نقد ولغط، بالحق أو بالباطل سيان.. فلابد من الاعتراف أن (اللجنة) انما حضرت وجاءت كطوق نجاة وانبوب حيوي لتنفس الثورة.. فقد لازم ثورة ديسمبر منذ ميلادها عيب خلقي كان كفيلا بان يودي بها وهي بعد في المهد رضيعة.. اعني غياب ما يتعارف عليه "بالشرعية الثورية"؟.. وهذا يرقي لأن يوصف بانه ركن من اركان الثورة – أي ثورة حقيقية – إذ يستحيل أن يتم اي تغيير سياسي في غيابه. خاصة بعد تمكن نظام دولة الحزب الواحد العقدي وهيمنته على كل تفاصيل ادارة الدولة لمدة ثلاثة عقود هي الاطول منذ استقلال البلاد. بقراءة التاريخ العالمي منذ ثورة البرلمان الإنجليزى ثم من بعدها الثورة الفرنسية، تلاحظ انه في الغالب ان يعقب الثورات الحقيقية تجاوزات تتفاوت افراطا أو تفريطا، (ربما كل الثورات)، لكن تظل الحقيقة قائمة: ان تلك التجاوزات مهمة جدا لصحة الثورة (للاسف)!!.. لا مجال للصدمة هنا، فنحن نتحدث عن وضع استثنائي (وضع انتقالي) تمر به – عادة – دولة ما بعد الثورة.. ولعل من المناسب الاستشهاد هنا بمثل فرنسي يحدثنا انه "من السهل ان تبتدئ الثورات ولكن من الصعب ان تنهيها بسلام". والأمثلة مازالت ماثلة وحية وكثيرة حتى في الأنظمة الليبرالية الحرة. ففي المانيا مثلا: فمنذ نهاية الحرب العالمية الثانية تقرر أن "الحزب النازي" حزب غير قانوني لا يجوز نشر افكاره أو الاحتفاء به أو برموزه أو بأي شيء يذكر الناس به. اما في الحالة السودانية الماثلة، فإن الخلل البنيوي، لا يتمثل فقط في غياب "الشرعية الثورية" منذ البداية، بل هو يقترن ايضا بتواضع محتوى الوثيقة الدستورية مقارنة مع تطلعات واحلام الثوار الشباب ببناء دولة سودانية حديثة، تمسح كل قبح الماضي، خاصة في أعقاب انتصارهم واستردادهم لزمام المبادرة بعزيمة في 30 يونيو 2019. فتلك الوثيقة لا تضمن ولا تحمي تلكم التطلعات إذ طغت عليها روح النشطاء من الممارسين لمهنة المحاماة وحلقت من حولها قوى سياسية تتعطش الجلوس على كرسي الحكم كيفما اتفق!!. ولربما لم يتيسر – وقتها – إمكانية الاستفادة القصوى من الخبرات السودانية من فقهاء القانون الدستوري والتشريع الذين تعج جامعات العالم بهم. بل لم يتيسر لها حتى دراسة التجارب الماضية بتمعن أو مجرد اقتباس تجربة دستور 1956 تعديل 1964 المعدل لاحقا في 1985 وإجراء ما يلزم من تنقيح يلائم المرحلة. بالحق، فاننا إذا امعنا النظر في حقيقة التوصيف الواقعي للوثيقة الدستورية، فهي لربما تبدو محض "اتفاقية" بين طرفين أو خصمين اكثر منهما شريكين.. فخضعت بشدة لمبدأ الشد والجذب.!! عموما، قد تبدو (اللجنة) متمددة واسعة الصلاحيات والسلطات.. غير ان هذا التمدد يدعمه النص القانوني وليس مجرد اهواء الاعضاء.. وقد كان ذلك القانون الخاص بإزالة التمكين ضروريا للغاية ليشغل الفراغ الخطير الذي لم تنتبه إليه أو اغفلته تلك الوثيقة.. فقد جرم القانون وحظر (المؤتمر الوطني المنحل).. اما (اللجنة) فكما أفهم فعليها تطبيق ذلك القانون روحا ونصا. ربما قد يجنح البعض للطعن فيها لانها لجنة سياسية.!!. وفي تقديري واستصحابا للظروف الاستثنائية التي تقدم الاشارة إليها، فهذا عين المطلوب (حاليا)!!!. فالركون إلى النص القانوني وحده منفرداً لا يجدي في إحداث التغيير السياسي المنشود الذي اريقت من أجله الدماء وبذلت التضحيات بشكل غير مسبوق في كل تاريخ السودان المعروف.. هذا جزء من العلاج ربما هو قاس، لكنه محدود حتى اكتمال بنيان الثورة.. وحتما لا يتأتى البنيان على أسس قديمة فاسدة مهترئة.. بل ولن يكتمل البنيان نفسه إذا كنت تبني وغيرك يهدم. ورغم ان الأمر استثنائي في جوهره، فليس هنالك ما يمنع من التصدي بصدق لإشكالية افتقادنا لمنابر ومنصات انتقالية خاصة بالتقويم والمراجعة في غياب المجلس التشريعي (العمود الفقري) الذي طال انتظاره.. ليس لمراقبة عمل اللجنة فحسب، بل لكل أعمال التنفيذيين وغيرهم.. لابد إذا من آلية للمراجعة الشفيفة. لكن مهلا وعلى رسلكم: يتوجب استخدام ما هو متاح الآن من أدوات للرقابة والمراجعة.. ينبغي أن ندرك حقيقة أن لدينا أدوات فعالة بين أيدينا تتمثل في الصحافة الحرة وهي متاحة بالضرورة للجميع على حد سواء من الثوار وسائر المشفقين على الثورة كما هي متاحة أيضا حتى لأعداء الثورة أو أصحاب المنافع والمصالح (البلف المقفول) الساعين لإصابة (اللجنة) – ان لم يكن كل التغيير – في مقتل. غير ان الحقيقة ستظل لافحة كشمس الخرطوم في نهارات الصيف، أنه وحتى استكمال هياكل وأجهزة السلطات الإنتقالية فان (لجنة إزالة التمكين) ستظل هي الجهاز المقبول للثوار والمعبر عن روح وضمير الثورة وجهازها العصبي والحركي.. فإن رأى الثوار عليها اعوجاجا فعليهم ان يقوموها بما يتاح، لا هدمها.. هدمها يخدم من قامت الثورة ضد تمكنهم.. وعلى اللجنة أن تعمل فقط وفق قانونها وروحه وما يمليه عليها ضمير ثورة جاءت لنصرة الحق بالحق.. ولكن فان عليها أيضا ان لا تخشى في الحق لومة لائم كائنا من كان.. حتى يزال أو يجبر كل الضرر ويصلح ما يمكن إصلاحه مما دمرته ماكينات وأسلحة "الفساد الشامل" الهوجاء.