السودان الافتراضي ... كلنا بيادق .. وعبد الوهاب وردي    إبراهيم شقلاوي يكتب: يرفعون المصاحف على أسنّة الرماح    د.ابراهيم الصديق على يكتب:اللقاء: انتقالات جديدة..    لجنة المسابقات بارقو توقف 5 لاعبين من التضامن وتحسم مباراة الدوم والأمل    المريخ (B) يواجه الإخلاص في أولي مبارياته بالدوري المحلي بمدينة بربر    الهلال لم يحقق فوزًا على الأندية الجزائرية على أرضه منذ عام 1982….    شاهد بالفيديو.. لدى لقاء جمعهما بالجنود.. "مناوي" يلقب ياسر العطا بزعيم "البلابسة" والأخير يرد على اللقب بهتاف: (بل بس)    شاهد بالصورة والفيديو.. ضابطة الدعم السريع "شيراز" تعبر عن إنبهارها بمقابلة المذيعة تسابيح خاطر بالفاشر وتخاطبها (منورة بلدنا) والأخيرة ترد عليها: (بلدنا نحنا ذاتنا معاكم)    لماذا نزحوا إلى شمال السودان    جمهور مواقع التواصل بالسودان يسخر من المذيعة تسابيح خاطر بعد زيارتها للفاشر ويلقبها بأنجلينا جولي المليشيا.. تعرف على أشهر التعليقات الساخرة    شاهد بالصور.. المذيعة المغضوب عليها داخل مواقع التواصل السودانية "تسابيح خاطر" تصل الفاشر    جمهور مواقع التواصل بالسودان يسخر من المذيعة تسابيح خاطر بعد زيارتها للفاشر ويلقبها بأنجلينا جولي المليشيا.. تعرف على أشهر التعليقات الساخرة    أردوغان: لا يمكننا الاكتفاء بمتابعة ما يجري في السودان    مناوي .. سلام على الفاشر وأهلها وعلى شهدائها الذين كتبوا بالدم معنى البطولة    وزير الطاقة يتفقد المستودعات الاستراتيجية الجديدة بشركة النيل للبترول    المالية توقع عقد خدمة إيصالي مع مصرف التنمية الصناعية    أردوغان يفجرّها داوية بشأن السودان    اللواء الركن"م" أسامة محمد أحمد عبد السلام يكتب: الإنسانية كلمة يخلو منها قاموس المليشيا    وزير سوداني يكشف عن مؤشر خطير    شاهد بالصورة والفيديو.. "البرهان" يظهر متأثراً ويحبس دموعه لحظة مواساته سيدة بأحد معسكرات النازحين بالشمالية والجمهور: (لقطة تجسّد هيبة القائد وحنوّ الأب، وصلابة الجندي ودمعة الوطن التي تأبى السقوط)    بالصورة.. رجل الأعمال المصري نجيب ساويرس: (قلبي مكسور على أهل السودان والعند هو السبب وأتمنى السلام والإستقرار لأنه بلد قريب إلى قلبي)    إحباط محاولة تهريب عدد 200 قطعة سلاح في مدينة عطبرة    السعودية : ضبط أكثر من 21 ألف مخالف خلال أسبوع.. و26 متهماً في جرائم التستر والإيواء    الترتيب الجديد لأفضل 10 هدافين للدوري السعودي    «حافظ القرآن كله وعايشين ببركته».. كيف تحدث محمد رمضان عن والده قبل رحيله؟    محمد رمضان يودع والده لمثواه الأخير وسط أجواء من الحزن والانكسار    وفي بدايات توافد المتظاهرين، هتف ثلاثة قحاتة ضد المظاهرة وتبنوا خطابات "لا للحرب"    أول جائزة سلام من الفيفا.. من المرشح الأوفر حظا؟    مركزي السودان يصدر ورقة نقدية جديدة    برشلونة ينجو من فخ كلوب بروج.. والسيتي يقسو على دورتموند    "واتساب" يطلق تطبيقه المنتظر لساعات "أبل"    بنك السودان .. فك حظر تصدير الذهب    بقرار من رئيس الوزراء: السودان يؤسس ثلاث هيئات وطنية للتحول الرقمي والأمن السيبراني وحوكمة البيانات    ما الحكم الشرعى فى زوجة قالت لزوجها: "من اليوم أنا حرام عليك"؟    غبَاء (الذكاء الاصطناعي)    مخبأة في باطن الأرض..حادثة غريبة في الخرطوم    رونالدو يفاجئ جمهوره: سأعتزل كرة القدم "قريبا"    صفعة البرهان    حرب الأكاذيب في الفاشر: حين فضح التحقيق أكاذيب الكيزان    دائرة مرور ولاية الخرطوم تدشن برنامج الدفع الإلكتروني للمعاملات المرورية بمركز ترخيص شهداء معركة الكرامة    عقد ملياري لرصف طرق داخلية بولاية سودانية    السودان.. افتتاح غرفة النجدة بشرطة ولاية الخرطوم    5 مليارات دولار.. فساد في صادر الذهب    حسين خوجلي: (إن أردت أن تنظر لرجل من أهل النار فأنظر لعبد الرحيم دقلو)    حسين خوجلي يكتب: عبد الرجيم دقلو.. إن أردت أن تنظر لرجل من أهل النار!!    الحُزن الذي يَشبه (أعِد) في الإملاء    السجن 15 عام لمستنفر مع التمرد بالكلاكلة    عملية دقيقة تقود السلطات في السودان للقبض على متّهمة خطيرة    وزير الصحة يوجه بتفعيل غرفة طوارئ دارفور بصورة عاجلة    الجنيه السوداني يتعثر مع تضرر صادرات الذهب بفعل حظر طيران الإمارات    تركيا.. اكتشاف خبز عمره 1300 عام منقوش عليه صورة يسوع وهو يزرع الحبوب    (مبروك النجاح لرونق كريمة الاعلامي الراحل دأود)    المباحث الجنائية المركزية بولاية نهر النيل تنهي مغامرات شبكة إجرامية متخصصة في تزوير الأختام والمستندات الرسمية    حسين خوجلي يكتب: التنقيب عن المدهشات في أزمنة الرتابة    دراسة تربط مياه العبوات البلاستيكية بزيادة خطر السرطان    والي البحر الأحمر ووزير الصحة يتفقدان مستشفى إيلا لعلاج أمراض القلب والقسطرة    شكوك حول استخدام مواد كيميائية في هجوم بمسيّرات على مناطق مدنية بالفاشر    السجائر الإلكترونية قد تزيد خطر الإصابة بالسكري    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



المؤرخ يوسف فضل حسن: رصانة الكسب وجزالة العطاء (2)
نشر في السوداني يوم 06 - 11 - 2022


عبد الله علي إبراهيم
عبد الله الفكي البشير
*******
أعلنت هيئة الشارقة للكتاب اختيار البروفيسور يوسف فضل حسن شخصية العام الثقافية لفعاليات الدورة ال41 من معرض الشارقة الدولي للكتاب (1-13 نوفمبر 2022)، الذي تتبلور رؤيته في تكريم أعلام الفكر والأدب والتاريخ، الذين شكلت جهودهم المعرفية إضافات نوعية إلى المكتبة العربية في مختلف المجالات.
واستجابة لهذه الرؤية جاء اختيار يوسف، تقديراً لإسهاماته الجليلة في مجال الدراسات التاريخية في السودان، ودوره في تطوير العلاقات العربية-الأفريقية على المستوى الأكاديمي. وتثميناً لهذه الرؤية وإجلالاً لإسهامات يوسف دشن معهد أفريقيا بإمارة الشارقة يوم الثلاثاء 1 نوفمبر 2022 كتاباً بعنوان: المؤرخ يوسف فضل حسن: رصانة الكسب وجزالة العطاء، لمؤلف أحمد إبراهيم أبوشوك.
وعليه يسرنا أن ننشر تباعاً تقديم البروفيسور عبد الله علي إبراهيم، (2) ويليه تقديم الدكتور عبد الله الفكي البشير، (3) ثم مقدمة المؤلف؛ لإلقاء إضاءات ساطعة على محتويات الكتاب، الناظم لسيرة يوسف في فضاءاتها المتعددة، والموثوقة في جوهرها بتمكين رسالة التعليم والتعلم، والبحث العلمي، وخدمة المجتمع.
*****
تقديم
الدكتور عبد الله الفكي البشير
هذا الكتاب هو فعل فداء وتجسيد لمعاني الاحترام والأدب مع الكبار. لقد فدى أحمد إبراهيم أبو شوك واضع هذا الكتاب، المثقفين في السُّودان، وفي الكثير من دول العالم، وهو ينوب عنهم في الوفاء والاعتراف بالفضل، والقيام بالواجب الثقافي والوطني، تجاه البروفيسور يُوسُف فضل حسن. لقد وهب يُوسُف جل حياته، لخدمة السُّودان، والإنسان، والعلم، وظل يعمل، باستمرار والتزام وجد، في تنمية الوعي وخدمة التنوير، من خلال التدريس وإنتاج المعرفة، وخدمة المجتمع، على مدى سبعين عامًا، منذ التحاقه بكلية الخرطوم الجامعية (جامعة الخرطوم حاليًا) عام 1952، وحتى يوم الناس هذا. فهو أستاذ التاريخ، الذي تتلمذ عليه، ونال الدربة على يديه، عدد كبير من العلماء والمفكرين والمؤرخين في السُّودان وخارجه. وهو المدير الأسبق لجامعة الخرطوم، والمؤسس لعديد المؤسسات الأكاديمية، والمؤلف باللغتين العربية والإنجليزية لنحو ثلاثين كتابًا، وأكثر من سبعين ورقة علمية، والمحرر لأكثر من عشرين من الكتب الجماعية وأعمال المؤتمرات العلمية، والمشرف على العشرات من الرسائل الجامعية، والممتحن لمثلها، فضلًا عن أعمال علمية أخرى، كما بيَّن وفصل لنا أبو شوك في كتابه هذا.
وتكاد لا تخلو دراسة عن تاريخ السُّودان، أو دخول الإسلام في أفريقيا، أو العرب والسُّودان، أو تاريخ التصوف في السُّودان، من إشارة ليُوسُف.
والحق أننا، في رحاب سيرة يُوسُف ومسيرته، التي أتحفنا بها أبو شوك، نقف أمام هرم علمي، وسجل معرفي عامر، ونادر المثيل.
ومن حسن التوفيق أن اضطلع بكتابة هذه السيرة أبو شوك، فهو من الأكاديميين الذين أثروا الفضاء المعرفي بإسهامات كبيرة، اتسمت بالمثابرة والاستمرار، إلى جانب تميزه بميزة نادرة. تلك الميزة كانت، ولا تزال من نواقص تربيتنا الأكاديمية، وقصور عملنا في الواجب الثقافي في السُّودان، وقد ظلت ملازمة له، ألا وهي الأدب مع الكبار. لقد درج أبو شوك على التعبير كتابة عن ذلك الأدب والتجسيد للاحترام، بتعظيم شأن الكبار من المفكرين والعلماء والقادة، والاحتفاء بأعمالهم، والتعريف بأفضالهم لا يعرف الفضل لأهل الفضل إلا ذوو الفضل. لقد كتب أبو شوك الكتاب والمقال عن كثيرين، منهم على سبيل المثال، لا الحصر، البروفيسور محمد إبراهيم أبو سليم (1927- 2004)، والبروفيسور عثمان سيدأحمد إسماعيل البيلي (1930- 2011)، والبروفيسور محمد سعيد القدَّال (1935 -2008). واليوم يجدد أبو شوك تلك المعاني، ليجيء كتابه هذا وفاءً ليُوسُف، واحتفاءً به، فضلًا عن حرصه على تجسير التواصل مع الأجيال القادمة مع أستاذ استطاع، كما وصفه أن ينحت لنفسه اسمًا بارزًا في لوحة المؤرخين السُّودانيين، ومن هنا تبلورت فكرة الكتاب. ك
تب، أبو شوك، قائلًا : ومن هنا جاءت فكرة كتابة سيرة يُوسُف الأكاديمية؛ لتكون موثقةً للأجيال المعاصرة والقادمة؛ لأنها جديرةٌ بالقراءةِ والتدبُّرِ، وفي توثيقها وفاءٌ لصاحب السيرة، الذي أفنى معظم سنوات عمره، دون توقفٍ، في خدمة تاريخ السُّودان، موضوعًا، ومنهجًا، ومصدرًا، كما قدم إسهاماتٍ مقدرةً في فضاء التعليم العالي وخدمة المجتمع.
ولا شك في أنَّ غياب ثقافة الأدب مع الكبار، تتصل بغياب الاتفاق على السُّودان، لأننا، لا نزال، في حالة بحث عن السُّودان. غير أنه يحمد لأبي شوك، بأنه كان من الطلائع في تجسيد الاحترام والأدب مع الكبار.
يُعد يُوسُف من الجيل الذي نشأ وتعلم في كنف الاستعمار البريطاني-المصري في السُّودان (1898- 1956)، وشهد بداية نشاط الأحزاب السُّودانية التي نشأت في منتصف أربعينات القرن الماضي.
وقد بدأ هذا الجيل حياته العملية في مؤسسات الدولة الوطنية، دولة ما بعد الاستعمار، التي لم تكن، ولا تزال في العديد من الجوانب، سوى امتدادً لدولة الاستعمار.
وفي هذا يقول المفكر السُّوداني الإنساني محمود محمد طه (1909- 1985): قد أخرجنا الاستعمار من أرضنا، غير أن ثقافته لا تزال تستعمر عقولنا.
لقد ظل نفوذ من احتلوا المواقع من المستعمرين، كما يقول الأستاذ عبد الرحمن عبد الله (1933- 2004) في كتابه: السُّودان: الوحدة أم التمزق، مستمرًا، لأن المكاتب التي جلس عليها الموظفون الجدد، هي نفسها المكاتب القديمة، وكذلك الملفات التي يعملون عليها، فقد تغيّر الحكام ولم تتغير مؤسسات الحكومة الكولونيالية. وأضاف، مشيرًا إلى دور الاستعمار في تعطيل الطاقات وتجميد حركة التغيير، فكتب، قائلًا: في حقيقة الأمر فإنَّ الميراث البريطاني الإداري لم يشفع للسودانيين لمواصلة الحكم بفاعلية، وكما حدث في الهند فلقد أرسوا دعائم حكم القانون، ولكن، ورغم المظهر الخارجي، كما قال نهرو (جمدوا حركة التغيير).
وكان عثمان البيلي قد أشار لهذا المعنى، عندما تحدث عن آثار التعليم الاستعماري، ضمن ترجمته عام 1966 لمحاضرة الكاتب والروائي البريطاني س. ب. أسنو (Charles Percy Snow) (1905- 1980)، المسومة ب: الثقافتان والثورة العلمية، (1959)، وتعليقه الموسع عليها.
ناقشت المحاضرة دول التعليم، وأوضحت بأن الحياة الفكرية للمجتمع الغربي بأسره انقسمت إلى ثقافتين: العلوم، والإنسانيات، والتي كانت عقبة رئيسية، أمام حل مشاكل العالم. صدرت المحاضرة فيما بعد في كتاب (The Two Cultures and a Second Look)، وأثارت جدلًا واسعًا، مما دفع المؤلف للتوسع فيها عام 1963.
تحدث البيلي عن أن المثقفين في الدول المستعمَرة كانوا نتاج ثقافة منشطرة، وتشربوا عن المستعمر معرفة علمتهم الجدل ومنعتهم العمل. وهنا سؤال يطرح نفسه، ما هو موقف يُوسُف ودوره؟ وهو الذي جلس على المكاتب القديمة نفسها، مكاتب المستعمر، في مؤسسات الحكومة الكولونيالية.
إن الإجابة عن هذا السؤال قد عبَّر عنها يُوسُف، كما تفصح هذه السيرة العامرة، بمنهج علمي وعملي، وعلى مدى سبعين عامًا، حيث العمل والعمل ثم العمل، ولم يعرف الجدل سبيلًا إلى حياته ومناخاته.
عاش حياة جادة، ووظف سنوات عمره في البذل والعطاء المعرفي. وصف أبو شوك هذه السيرة، قائلًا: إنها سيرة مؤرخٍ ثبتٍ، أفنى معظم سنواته عمره في تجويد كسبه المعرفي وبَذْل عطائه الأكاديمي، دون أن يترك هامشًا واسعًا لبقية اهتماماته الحياتية الأخرى، التي تقع خارج نطاق اهتمامه الرئيس.
ظل يُوسُف عبر هذا الجد في العطاء يقدم نقدًا عمليًا للمعرفة الاستعمارية، حيث إنتاج المعرفة فعلًا، لا مجازًا، واقعًا لا أحلامًا، فأسهم وبقوة في تحرير الفضاء الأكاديمي من الإرث الاستعماري، ليخدم السُّودان والإنسان.
ولعل إنتاج المعرفة الذي هو واجب المثقف، ظل من بين أهم سمات ضعف أداء المثقف في السُّودان، لا سيما الأكاديميين.
بالطبع ليس هناك إحصائيات وتقارير تبين ذلك، ولكن الصورة العامة واضحة لكل دارس في الشأن السُّودان، وقد عبَّر الكثير من الكُتَّاب عن ذلك الضعف.
وأكاد لا أكون مبالغًا في مخاطبة الراهن، إن بعثت بسؤال الأستاذ محمد عشري الصديق (1908-1972)، الذي طرحه قبل نحو قرن من الزمان، حيث كتب عام 1929، قائلًا: لا يزال كثير مما يجب أن يُعمل لم يبدأ فيه حتى الآن، فعلى من تقع تبعة هذا التكاسل؟.
وواقع الحال يؤكد صلاحية سؤال عشري، غير أنه لا يشمل يُوسُف، لأنه يمثل أنموذجًا إرشاديًا في الإنتاج المستمر للمعرفة، وفي النقد العملي للإرث الاستعماري في العقول. وهذا، في تقديري، يؤكد غياب الكسل والتكاسل في حياته، وانتفاء التأخر أو التواني عن القيام بالواجب الثقافي والوطني، وقد ظل يعمل بسلاح المثقف الأكاديمي وأدواته: الكتاب والمقال والمحاضرة، وكذلك بمقدرات المدير والقائد في المؤسسات الأكاديمية التي تبوأ إدارتها.
عندما ورث يُوسُف إدارة شعبة أبحاث السُّودان عن مديرها المؤسس لها عام 1963، ج. ن. ساندرسون، أستاذ التاريخ بجامعة الخرطوم، في أبريل 1965، قاد يُوسُف تلك الشعبة برؤية سودانية تطويرية وباقتدار أكاديمي، حتى رُفعَت في سبتمبر 1972 إلى معهد الدراسات الأفريقية والآسيوية، كوحدة أكاديمية- بحثية تابعة لكلية الآداب بجامعة الخرطوم، ومع تراكم الإنجازات، سرعان ما أصبح المعهد، كما بيَّن أبو شوك، ذا شخصية اعتبارية مستقلة، تحت إشراف مديرٍ مسؤولٍ أمام مدير الجامعة ومجلس أساتذتها. استطاع يُوسُف وهو المدير والقائد للشعبة، ومن ثم المعهد، أن ينقل العمل البحثي من وضعيته الديوانية إلى العمل الميداني.
لقد أنجزت الشعبة والمعهد أعمال ميدانية ضخمة، سواء في جمع التراث السُّوداني، واللغات المحلية، أو في مجال الفولكلور، والروايات الشفوية، والموسيقى المحلية… إلخ، وذلك عبر مشاريع بحثية فصَّلها أبو شوك، وقدم نماذجًا من العلماء والأساتذة وفرق العمل التي شاركت فيها. كان المعهد، في تقديري، باهتماماته وأدائه، وسجل إنجازاته، وببيئته الداخلية، ومناخاته الحوارية، وبجهود يُوسُف، أول مؤسسة أكاديمية تشبه السُّودان، الذي يعيش كِظة التعدد الثقافي.
ونأمل، والسُّودان يشهد مراجعات نقدية واسعة وشاملة لإرث الدولة السُّودانية، ولسجل الأكاديميا السُّودانية، أن يستمر هذا المعهد في أداء رسالته، ويسير وفقًا للأسس التي وضعها الآباء المؤسسون له.
ويقيني بأنه سيستمر إذا ما خضع الأمر لمعايير المراجعات وفحص الأداء، بعيدًا عن التدخلات الرسمية ذات السقف المعرفي الخفيض، والرؤية القاصرة للمستقبل ومتطلبات بناء السلام، حيث الاحتفاء بالتعدد الثقافي والعمل على إثرائه في سبيل حيوية الأمة.
لقد ظل هذا المعهد متسقًا مع بيئة التعدد الثقافي في السُّودان، وخادمًا للتعدد، وفقًا للأسس والمتطلبات العلمية، وفي هذا فإن إنجازاته تدعو إلى الانتقال بالتاريخ من أن يكون دراسة للماضي، فحسب، إلى أن يكون أداة من أدوات إحداث التغيير.
كذلك ظل المعهد متصلًا بالواقع والميدان، ونلمح ذلك عندما اعتمد يُوسُف تعيين أصحاب إمكانيات ميدانية بناءً على إسهاماتهم، ودون اعتبار للشروط التقليدية في الجامعة، مثل الطيب محمد الطيب (1940-2007)، والبروفيسور عبد الله علي إبراهيم، وغيرهما، وقد فصَّل أبو شوك في ذلك.
كما أتاح الاتصال بالواقع والميدان انتفاء صفوية المزاج من المعهد، والتي غرسها المستعمر في المؤسسات التعليمية التي أنشأها، وفي جرعات التعليم والتكوين التي وضعها، الأمر الذي أسهم في انفصال العلم عن الحياة.
ولا تزال تلك الصفوية وآثار استعمارية غيرها، متمكنة في العقول، وفي المؤسسات، لا سيما، جامعة الخرطوم، التي هي في حاجة للتحرير من الإرث الاستعماري واستكمال الاستقلال.
تكشف هذه السيرة العامرة والعالمة، والتي نهض بها أبو شوك بأفضل ما يكون، عن أننا أمام مؤرخ مطبوع، وصاحب خيال تاريخي، أرسى تقاليد علمية رفيعة، ظلت تنشد تجسير التواصل مع العالم، واتسمت بالصرامة والاحتراز في الوصول للنتائج وإطلاق الأحكام، فضلًا عن الورع العلمي.
ظل يُوسُف يعمل بأفق كوكبي، ينشد المواكبة، سواء في اللغة، أو المنهج التاريخي، أو مجالات التاريخ، أو الكتابة التاريخية.
كما تمتع بحدس وحس تاريخيين، جعل رؤيته ودراساته تسير متناغمة مع الجديد من الأطروحات في النظريات والمناهج التاريخية.
وقد تجلى ذلك عندما ظهرت معالم حقل التاريخ الجديد بإشراف المؤرخ الفرنسي جاك لوغوف (Jacques Le Goff) في باريس عام 1978.
وصف لوغوف التاريخ الجديد بأنه علم في سن الطفولة . لقد جاء التاريخ الجديد بتقاليد خاصة به، وهي التقاليد التي أرساها مؤسسو مجلة حوليات التاريخ الاقتصادي والاجتماعي. فقد بعث لوسيان فيفر (Lucien Febvre) (1878- 1956) ومارك بلوخ (Marc Bloch) (1886- 1944) مجلة: الحوليات في ستراسبورغ عام 1929، فكانت، ولا تزال، منبرًا للتجديد في حقل البحوث التاريخية، مع وجود المؤسسة البحثية المساندة، وهي المدرسة التطبيقية للدراسات العليا، والتي أصبحت تعرف باسم مدرسة الدراسات العليا في العلوم الاجتماعية.
وعلى الرغم من استفادة التاريخ الجديد من مدرسة الحوليات، إلا أنه ينتسب إلى ما أبعد من مدرسة الحوليات. لقد نشأ التاريخ الجديد في إطار ثورة على التاريخ الوضعي الذي كان سمة القرن التاسع عشر، فأحدث ثورة في مستوى الكتابة التاريخية على مستوى الأزمنة التاريخية.
لقد حارب الزمن القصير لينظر إلى التاريخ من خلال الأمد الطويل، وأدخل مفاهيم جديدة، مثل: التاريخ والأمد الطويل، وتاريخ البنى، والأنثروبولوجيا التاريخية، وتاريخ الثقافة المادية، والتاريخ الآني، وتاريخ الجسد، والجنس، وتاريخ الذهنيات، وتاريخ الهامشيين والمهمشين، وتاريخ المتخيل، وتاريخ السلطة في جميع تجلياتها، ورمزيتها وتمثلها في المتخيل، واقترح أن يطلق عليها الأنثروبولوجيا السياسية التاريخية. كما طالب التاريخ الجديد بتغيير جذري لكامل مجالات التاريخ، واعتمد أنواعًا جديدة من المصادر، مثل دفاتر العدل والتاريخ الشفوي والتراث المادي.
وإذا ما فحصنا سجل إنجازات معهد الدراسات الأفريقية والآسيوية، الذي أسسه يُوسُف عام 1972 عبر ترفيع شعبة أبحاث السُّودان، نجد أن تلك الإنجازات، والتي أشرف عليها وشارك فيها علماء كبار من السُّودانيين، والكثير من الباحثات والباحثين السُّودانيين، قد خاطبت الكثير من انشغالات التاريخ الجديد قبل أن تخرج فكرة التاريخ الجديد للناس من باريس عام 1978 بقيادة المؤرخ جاك لوغوف.
كذلك إذا ما درسنا الإنتاج المعرفي ليُوسُف نجده قد لامس بعض تقاليد التاريخ الجديد. فعلى سبيل المثال، لا الحصر، كتب، أبوشوك، قائلًا: في الإطار الزمني التاريخي يحبذ يُوسُف دراسات الأمد الطويل في البحث التاريخي؛ فيما يختص بدراسة التغيرات الاجتماعية والاقتصادية، معللًا ذلك بأن (التغيرات الاجتماعية والاقتصادية وتحولاتها تتم عادة ببطء شديد، والكشف عن هذه التحولات من أهم غايات البحث التاريخي). وذكر أبو شوك بأن يُوسُف قد تبنى هذا النهج باكرًا في أطروحته لنيل درجة الدكتوراه عن (العرب والسُّودان)، (1964)، وظل يثمن الأبحاث التي تستند إليه، والدليل على ذلك تقريظه لدراسة محمد سعيد القدَّال عن الإسلام والسياسة في السُّودان: 621-1985م، والتي وصفها بأنها: تجربة متميزة في تناول ظاهرة تاريخيَّة واحدة، ربط الدين بالدولة، عبر حِقَبٍ تاريخيَّةٍ تمتد منذ دخول العرب السُّودان وحتى تطبيق قوانين سبتمبر 1983م. وأضاف أبو شوك مشيرًا لرؤية يُوسُف تجاه النظرة للتاريخ من خلال الأمد الطويل،فكتب، قائلًا: ويرى يُوسُف أن دراسات الأمد الطويل يجب أن تُؤسس على نظرة شمولية لدراسة الحدث التاريخي، يراعى فيها تأثير الظروف السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية المحيطة بمراحل تشكل الحدث نفسه، وتأثيراتها إيجابًا وسلبًا فيه. وتعني الشمولية بالنسبة إليه أيضًا الظروف الموضوعية الخاصة والمحيطة بالحدث التاريخي وحيزه الجغرافي وعمقه الزمني، والمؤثرات الخارجية ذات الصلة بمحيطه العام، أي بُعده الإقليمي أو بُعده العالمي.
أيضًا كانت أعمال يُوسُف، سواء إنتاجه المعرفي أو إنجازات المعهد، تسعى لسد القصور في الدراسات التاريخية في السُّودان. لقد تمحور الاهتمام في الدراسة التاريخية في السُّودان، إلى حد كبير، في مجالي التاريخ السياسي والعسكري، مع إهمال كبير لمجالات عديدة، منها على سبيل المثال، لا الحصر، تاريخ الطب، وتاريخ الصحة، والتاريخ الاجتماعي، والتاريخ الاقتصادي، وتاريخ الأفكار، والتاريخ الفكري، وتفكيك الذاكرة الاستعمارية، مع غياب لدراسات ما بعد الاستعمار.
ويكاد الباحث لا يجد أثرًا، سوى نزر يسير جدًا، لعلم التاريخ الجديد. وهذا ما خرج عنه، إلى حد كبير، أداء المعهد وإنجازات يُوسُف.
….(يتبع)


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.