زارني في البيت دبلوماسي عربي. ما جمعني به هو أنني قد أشرفتُ على رسالته للماجستير في العلوم السياسية فزارني عندما سمع بأنني مريض في البيت. كعادته دخل الدبلوماسي العربي معي في كلام عن السياسة. فقال لي إنه قال في حضرة عدد من القيادات السياسية السودانية وبعض الدبلوماسيين العرب قال إنه لا يعتبر هذا الربيع العربي ثورات. وأن دول مثل فرنسا شعرت بالندم لأنها دعمت الذين أطاحوا بالقذافي. فقال لي: إن أحد القيادات السودانية لم يعجبه هذا الكلام. ففاجأته بأني أيضاً لم يعجبني هذا الكلام. حاول تبرير رأيه بكلام كثير. وعندما انتهى قلتُ له: لو جاءت هذه الثورات العربية بأية جماعة أخرى للحكم في تونس ومصر وليبيا غير التيار الإسلامي لوصفها الغرب بأنها (ثورات). لكن لأنها جاءت بالتيار الإسلامي. ووضعتُ له ذلك في شكل سؤال: هل لو وصل إلى الحكم أي تيار آخر غير الإسلاميين هل ستندم فرنسا؟ فاعترف الدبلوماسي بصحة رأيي. واتفق معي بأن الغرب غير راضٍ عن وصول الحركات الإسلامية للحكم في المنطقة حتى ولو تم ذلك عن طريق الديمقراطية الغربية نفسها!. ثم انتقل ضيفي الدبلوماسي إلى الحديث عن السياسة السودانية، فقال لي بأن ما يتم عكسه في الإعلام عن العلاقات السودانية الأمريكية هي ليست الحقيقة. في الواقع الإعلام يتحدث عن وضع مختلف عما يجري في لقاءات المسؤولين الأمريكيين بالمسؤولين السودانيين. ما قاله يعني أن اللقاءات الرسمية بين الطرفين السوداني والأمريكي تكون إيجابية، لكن يركز الإعلام على أن أمريكا ما زالت تضغط على الحكومة السودانية وتتعنت في عملية تطبيع العلاقات الثنائية. فقلتُ له: أليس هذا هو الواقع، والدليل على ذلك أن أمريكا ما زالت تعمل على تجديد العقوبات الاقتصادية على السودان سنويا منذ عام 1997؟ رد ضيفي الدبلوماسي بأن العلاقة بين الطرفين في تحسُّن مستمر لكن أمريكا لم ترفع العقوبات حتى الآن لأنها تسعى للحصول على المزيد من التنازلات من الحكومة السودانية. من خلال هذه الونسة السياسية اتفقنا على أن الولاياتالمتحدةالأمريكية لا تسعى لتغيير نظام الحكم في السودان. وقد قال لي ضيفي في هذه النقطة إن أمريكا في واقع الأمر قد توصلت لقناعة بأن المعارضة السودانية ضعيفة ومهترئة ولا تقوى على إسقاط النظام. ولذلك فقدت الثقة في المعارضة سواء كانت المسلحة أو الأحزاب السياسية الأخرى، خاصة أن أمريكا لا تستطيع أن تضمن مَن هو البديل؟ ففي ظل البدائل والخيارات المتاحة – لو تم إسقاط نظام البشير – غالبا ما يأتي نظام حكم ضعيف في الخرطوم وهذا ما لا تريده واشنطن. وهنا توصلنا إلى النقطة الأهم في هذا التحليل المشترك (السياسي/الدبلوماسي) وهي أن أمريكا قد فطنت إلى أن نظام البشير أفضل لها من أي نظام آخر يأتي في الخرطوم، كيف؟ أولاً أن نظام البشير قياسا بالأنظمة أو التيارات الإسلامية الأخرى هو الأكثر اعتدالاً؛ وثانياً لأنه في ظل المتغيرات الراهنة في المنطقة فإن أي تغيير بنظام (غير إسلامي) ضعيف، أو إسلامي متشدد، فسوف تكون النتيجة في الحالتين هو مناخ موائم لدخول و/أو انتشار الحركات المتطرفة مثل السلفية الجهادية والقاعدة وغيرها. ففي ظل المتغيرات الإقليمية وخاصة في هذه المنطقة (الشرق الأوسط، شمال أفريقيا، وغرب أفريقيا) هناك حراك سياسي إسلامي لكن مع ظهور حركات متطرفة وانتشار القاعدة. فهناك (حزام) – إن صح التعبير – لانتشار الإسلام السياسي وفي داخله (جغرافيا على الأقل) انتشار السلفية الجهادية والقاعدة. هذا الحزام يبدأ من الصومال شرقا وينتهي في مالي غرباً. وظهرت الأجندة واضحة لهذا التيار الممتد في هذا الحزام وهو: "الحرب ضد الصليبية". وبتدخل فرنسا عسكريا ضد التيار الإسلامي في شمال مالي أصبح للصراع بعدا جديداً. وهذا الوضع انعكس سلبا على الثوار في سوريا حيث أن الغرب الذي ساعد ودعم بشدة ثوار ليبيا لم يتحرك لدعم ثوار سوريا خوفا من تكرار وصول الإسلاميين إلى السلطة (وواضح أن الغرب هنا يفضل الشيعة على السنة) فترك الغرب ثوار سوريا تطحنهم آلة نظام بشار العسكرية التي تسندها قوة إقليمية ممثلة في إيران وحزب الله (حركة أمل الشيعية سابقاً) وقوة دولية ممثلة في روسيا. أما تحركات الجامعة العربية والدول العربية فهي بطيئة ومحدودة وضعيفة قياسا بسرعة وحجم الدمار الذي يحدث للشعب السوري، وفي حين تستهلك أمريكا العبارات الدبلوماسية (الأسد أيامه محدودة، وما يحدث انتهاك لحقوق الإنسان..ألخ) بينما في الواقع لا يوجد تحرك حقيقي لإنقاذ الشعب السوري الذي أصبح بين سندان نيران الشبيحة ومطرقة النزوح واللجوء والبرد والصقيع والجوع والأمراض ومستقبل مجهول! وبالعودة إلى موضوع العلاقات السودانية الأمريكية يمكن أن نطرح سؤالاًُ: ماذا تعمل الحكومة السودانية لتطبيع علاقاتها مع السودان؟ للإجابة على هذا السؤال أحيل القارئ لمقال كتبته في هذه الصحيفة بتاريخ 20/11/2012. وقد وجهتُ هذا السؤال لضيفي الدبلوماسي: فقال لي لكي تنجح حكومة الخرطوم في تطبيع علاقاتها مع واشنطن عليها أن تتصرف مثل بقية الحكومات في المنطقة في تعاملها مع أمريكا، وعليها أن تعمل على خدمة مصالح شعبها.