:: بالأحياء الشعبية، غير أصوات باعة الخضر والفاكهة واللبن، يسمع الأهل بين الحين والآخر نداءً من شاكلة: (نصلح العناقريب ونشد السراير)، و يكون المنادي حرفياً يتقن شد أسلاك وحبال بلاستيك السراير، وكذلك يتقن إعادة فك وتركيب أرجل العناقريب بعد تصليح كسورها.. أو هكذا كان الحال العام قبل الغزو الماليزي والصيني والمصري بأثاثاته، وكذلك قبل أن تصبح أجسام العامة - من وطأة الريجيم الإجباري - بوزن الريشة، بحيث لا تكسر العناقريب أو ترخي حبال السراير.. ومع ذلك، ما تزال لتلك الحرفة روادها و زبائنها..! :: وكثيرة هي الحرف التي يحترفها السواد الأعظم من أهل المدائن والأرياف، بلا أي مؤهل دراسي، جامعياً كان أو ثانوياً أو حتى من يسمون بالأساس..أميين، ولكنهم عباقرة في إتقان حرفهم.. كهربجي، حداد، براد، ميكانيكي، نجار، سباك، أسطة جالوص، معلم بياض، راديوهاتي، وغيرهم وغيرها، من حرف وحرفيين.. اكتسبوا إتقان العمل بالممارسة والخبرة المتراكمة، وشكلوا إحدى أهم حلقات الحياة.. هؤلاء، وغيرهم، خاطبهم والي الخرطوم يوم الإثنين الفائت بالنص القائل: (تعتزم الحكومة سن قانون يحظر ممارسة الحرف اليدوية كالبناء والكهرباء والحدادة وغيرها، دون الحصول على مؤهل جامعي، والقانون منصف لخريجي الجامعات وطلاب التدريب المهني).. هكذا القانون المرتقب! :: أولاً، نحسن الظن ونستبعد سنَّ هذا القانون، وندرج خطاب الوالي في إطار حث الراعي لرعيته على ضرورة إلحاق أبنائها بالجامعات والمعاهد بالرقابة السليمة والتشجيع على التحصيل الأكاديمي. إن كان المقصد كذلك، فنؤيده ونشد من آزره ونقف معه (ألف أحمر).. نعم، التحصيل الأكاديمي يجب أن يكون محيطاً بلا ساحل بالدعم المعنوي والمادي.. وليس بالضرورة أن يكون العلم من أجل (الوظيفة)، فالعلم لم يكن في يوم من الأيام وسيلة، بل هو في حد ذاته (غاية)، ولذلك نحسن الظن ونقف مع الوالي في هذا الدعم المعنوي بلا تحفظ.. ولكن، إن كان هناك - فعلاً - قانون في مرحلة التشريع ليحظر ممارسة الحرف اليدوية، دون الحصول على مؤهل جامعي، فهنا (الرمال كال حماد)..!! :: قانونياً، بالدستور لا يستطيع أي قانون ولائي أو مركزي حظر أي حرفي - حتى ولو ما بيعرف الواو الضكر - عن ممارسة حرفته اليدوية.. فالحرفة ليست جريمة بحيث يحظرها قانون، ويخطئ المستشار القانوني للولاية - أو للوزارة المعنية بالأمر - إن كان يعتقد أن قانوناً هكذا سيجد حظه من التنفيذ تحت ظل دستور البلد، وعلى هذا المستشار القانوني - الواقف وراء كلام الوالي - تعديل دستور البلد قبل سن هذا (القانون الأشتر).. والعمل - أي عمل، حرفياً كان أو نظرياً - ما لم يخالف الشرع وطبيعة الأشياء، وما لم ينتهك حق الآخر في روحه أو دمه أو ماله، غير قابل للحظر حتى ولو اجتمعت على حظره قوانين الدنيا والعالمين.. ولذلك، هذا القانون سوف يكون مضحكاً ومعيباً يا مستشاري الوالي في الشؤون القانونية، ( بلاش فضائح)..!! :: ذاك شيء، والشيء الآخر.. في كل أرجاء الكون، لا يسأل الحرفي عن مؤهله الأكاديمي، بل يتم اختياره ليؤدي حرفته (بيان بالعمل)، ثم بعد ذلك يتم تدريبه وتأهيله - وليس تعليمه - عند الضرورة في المعاهد الفنية والتقنية، بحيث يكون مواكباً في كيفية استخدام الأجهزة والمعدات الحديثة.. فالتدريب والتأهيل بواسطة المعاهد شيء، والتعليم عبر الجامعات شيء آخر، يا عباقرة الموارد البشرية والقانون، أي يا (رجال حول الوالي).. وسلطات دولة الهند، على سبيل المثال، عندما راهنت في نهضتها على الكوادر الحرفية - وهي المسماة بالكوادر الوسيطة - لم تلزم هذه الكوادر بالمؤهل الجامعي، بكل كان فيها الأمي والأطرش والأبكم والأعمى، ومع ذلك جمعتهم ودرّبتهم ثم نهضت بهم بهدوء، أي بلا (تنظير ونظريات)!.