يقاس نجاح تخطيط اي مدينة بما تستطيع تحقيقه من الأهداف والنظريات المعمول بها في علوم تخطيط المدن بمفهومها العالمي والعلمي المعاصر وذلك من خلال نظام العلاقات بين عناصر المدينة الرئيسية ونظام شبكات الخدمات المتعددة ونظام انشاء الوحدات الحضرية المتكاملة بحيث تتكون المدينة وتنمو محققة للسكان حياة كاملة مريحة آمنة تلبي احتياجات المعيشة وشاملة لكل العناصر التي تؤدي إلى تنمية الروابط الاجتماعية بين السكان على اختلاف مستوياتهم الحضارية وثقافاتهم ... ولن يتأتي ذلك الا اذا كانت كل امور المدينة وليدة تفكير وتدبير عميقين وبموازين علمية وعملية وحضارية من حيث اختيار موقع كل عنصر مكون للمدينة ومن حيث اسلوب تخطيطها وبنائها كما أن مظهرها في كل مرحلة من مراحل تطورها يعبر عن امكانيات العصر دون التخلي عن الاصالة الفنية بالقيم الحضارية المستمدة من التراث. ولا يمكن تنفيذ تلك النقلات الحضارية الا اذا حرص المسؤولون أشد الحرص على مباشرة ادارة المهام العمرانية بأنفسهم من توجيه ومراجعة ومتابعة ميدانية وحسم وبت وتذليل للعقبات والمضي بحزم وعزم نحو الهدف المرسوم دون تراجع وصولا إلى تحقيق النهضة العمرانية الشاملة .. إن المتأمل لواقع تخطيطاتنا العمرانية يجد أن هناك عدة متغيرات حدثت بشكل مفاجيء دون أن يكون للقرار السليم دور في ترشيدها فغاب التخطيط الشامل الذي يعني بالتوزيع الكامل للخدمات والمرافق الحيوية للمدينة (سكني ، تجاري ، ثقافي ، ترفيهي .. الخ ) وبذلك نمت العشوائية في صنع القرار ، والاجتهادات الشخصية وغاب التصميم المعماري المبدع وغابت المسابقات المعمارية المتنافسة وساد القرار المبني على منطلقات سلطوية وأهواء شخصية وحل الاجتهاد المذموم والاخفاق في تحقيق اي ابداع .. إن المخرج الحقيقي يكمن في وضع الخطط الاستراتيجية والبدائل المناسبة للنهضة العمرانية مع المحافظة على هوية بحري وشخصيتها المميزة ثم يأتي دور صانع القرار الماهر في قدرته وقيادته وصاحب الكفاءة والخبرة والابداع ليختار البديل المناسب .. لقد بدأ تخطيط المدن مع انشاء المدن الأولى منذ حوالي عام 3500 ق م حيث حدد السكان القدماء لهذه المدن مناطق للسكني والعبادة ونشاطات اخرى . واعتاد الناس على التخطيط لمجتمعاتهم عبر العصور التاريخية المختلفة .. ويمثل المخطط الرئيسي واحدا من أهم اختصاصات مخطط المدن وتحتوي الخطة التوجيهية على الوضع الذي يجب أن يكون عليه ذلك المجتمع في المستقبل عن طريق الرؤية الصائبة والنظرة الثاقبة للأهداف التي يتم رسمها في شتي مجالات العمل العمراني بجرأة لا تعرف المستحيل ولا تخاف الأحلام فليس هناك مستحيل أمام الارادة والثقة والاخلاص والرؤية السديدة ودونكم ما يحدث في بلاد الخليج حيث تشهد الآن ثمرات الرحلة الناجحة لما كان يعتبره البعض أحلاما بعيدة المنال مستحيلة التحقيق .. فقد حولوا التصور الخيالي إلى واقع مشهود وظهرت الشخصية التراثية (العربية / الاسلامية) لبلادهم في التصميم المعماري للمباني العامة والخاصة وحافظوا على المعالم ذات القيمة الحضارية وحافظوا على التقاليد والقيم الحضارية الأصيلة للمجتمع في التصميم والتخطيط وحققوا ترابط أفراد المجتمع في المناطق السكنية المتكاملة وهاهم ينعمون بحياة كريمة في مدن تشتمل على العديد من الخصائص والمزايا الجمالية بمبانيها الحديثة وشوارعها الفسيحة وحدائقها الرائعة وخضرتها التي قهرت صفرة الصحراء الواسعة الكئيبة وأصبحت تزدهر بمفردات التطور وتلبي احتياجات قاطنيها ولعل أهم ما بدأت به تلك الانطلاقة كانت باستقطاب الخبراء والفنيين لوضع مخططات البناء والتعمير .. صحيح انه لا يمكن نقل التخطيط كنموذج ثابت نطبقه دائما وفي جميع الأحوال أو أن نستخدم طريقة القطع واللصق بالأخذ من أماكن مختلفة لكي ننتج نموذجا يمكن استخدامه في كل بلد ومدينة .. بل لابد أن يتمشي مفهوم التخطيط مع احتياجات السكان وثقافتهم وحضارتهم ولكن لابد أيضا من أن يوفر لهم الجمال والصحة والراحة .. فالشوارع الواسعة التي تكسو جوانبها الخضرة والاشجار والزهور هي جمال .. والميادين العامة الخضراء المقسمة بنظام هندسي بديع هي جمال .. وواجهات المباني ونسب الفراغ الهوائي والضوئي هي جمال .. وازالة الأوساخ والقاذورات هي جمال .. وازالة أنقاض البناء هي جمال .. والاحتفاظ بالملامح الطبيعية وتجنب الرتابة المملة وتوفير الوقار لوسط المدينة بمميزات تجارية فخمة تسمح بإجابة مطالب الناس هي جمال .. إن الناس يقطعون وقتا طويلا في الانتقال الافقي الذي تتسم به مخططات مدننا .. أليس اذن من الواجب على مخططي المدن عندنا أن يستغلوا هذا الوقت المتوفر للترفيه عن الناس وراحتهم بجمال الشوارع واتساعها وخضرتها وبجمال المعمار الذي يبدو للناس على امتداد الافق أو خط السماء ... لقد كانت فرصة مخططي المدن عندنا كبيرة لتخطيط مناطق واسعة من مدننا كانت كلها فضاء (قبل توسعها وامتداداتها) على أحدث الاساليب والمباديء والنظريات لإنشاء مدن أو قل امتدادات للمدن تجمع مزايا ومقومات الجمال والبيئة والهدوء والراحة والخضرة .. ومدينة الخرطوم بحري التي نحن بصدد الحديث عنها تحديدا لم تكن إلى عهد قريب تمتد لأكثر من حوالي 3-4 كيلومترات في اتجاه الشمال والشرق بدءا من النيل الازرق والنيل كحدود غربية وجنوبية فما الذي كان يمنع أن تخطط مناطق المدينة فيما بعد تلك المناطق المأهولة باستخدام مربعات الاحياء السكنية التي تتوسطها حديقة كبيرة خضراء تجمع المنافع المشتركة المختلفة كالمساحات الخضراء والملاعب والوحدات الصحية والمطاعم والمقاصف ودور اللهو البريء على أن تشكل هذه المساحة الخضراء حوالي (40-45 %) من مساحة المنطقة السكنية .. بديلا لهذه الصفوف السكنية التي لا يفصلها سوى شوارع ضيقة أشبه بالأزقة والتي تمتد على مد البصر في رتابة مملة ... (تخطيط المدن الانساني والابداع والتميز)؟.. ولعلنا نستطيع أن نقول أن هوية الخرطوم بحري تكمن في انها مدينة سكنية وصناعية في وقت واحد (أو هكذا اريد لها) .. وعليه فقد كان المفترض بعد أن تم تحديد هويتها أن يتم تصميم مناطقها المختلفة على تصور مسبق تتكامل فيه كافة العناصر والمكونات بطريقة يتم معها التعرف على كيف يمكن أن تبدو بحري بتفاصيلها بعد تنفيذ المخطط .. لقد كان من الممكن استخدام بعض لمسات الحلول التصميمية التابعة من أفكار ( ايبنز هاورد ) التي صاغها فيما يعرف بالمدينة الحديقية حيث يجب أن تشرف المدينة الحدائقية على الملكية الكلية المكونة لها وأن تحاط كل منطقة أو حي بنطاق أخضر يمنع البناء في حدوده وذلك لمنع تداخل الأحياء في بعضها البعض وأن يكون اتساع المدينة الحدائقية عن طريق مدن حدائقية اخرى على شكل مدن تابعة أي مرتبطة بها ولكنها منفصلة عنها تماما وبذلك تجمع مزايا الريف في مدينة صحية كاملة وتخفف الضوضاء وتلوث المصانع والدخان الذي تنتجه المنطقة الصناعية .. فما الذي يمكن أن نقترحه لبعث الحركة والحيوية لمدينة الخرطوم بحري كمثال لمدينة سكنية وصناعية تبعد عنها محدودية المناظر والرتابة وضعف قوة الصور الذهنية والانطباعية البصرية وصلابة كتل المباني المتشابهة وتخطيط الشوارع الشبكي الممل؟ .. ولكي نعيد إلى بحري ما يعرف بالاحساس بالمكان فلا بد أن يصبح التوجه نحو الموافقة على تصاميم المباني العامة مثل المجسمات الجمالية التذكارية ودور العبادة والحدائق من حيث جودتها البصرية والجمالية حيث تبعث تلك العناصر معاني عميقة وأثرا حسيا تذكاريا مهما .. فهل تجد الاقتراحات التالية لتطوير مدينة بحري نصيبا من الدراسة وحظا من التطبيق ؟ يتبع