لا أقول بسبب حساسيته غير الخافية تجاه الرواية وإنما بسبب ولعه بالشعر العربي التقلديدي، إلى حدّ أن يراه الفن الأدبي الأوحد الجدير بالقراءة والكتابة، فإن ذلك الفتى الذي كنته قبل عشرين عاماً وأكثر لم يكن يرى في الطيب صالح أكثر من شخصية سودانية مرموقة من الأفضل لو أنها كانت لشاعر لا روائي. وبعد الانفصال الراقي (على الأقل من جانبي) الذي اعترى علاقتنا أنا والشعر لم أعمد إلى الاقتران بالفن القصصي في أيٍّ من أشكاله الفنية، وعليه فإن حساسيتي تجاه الرواية – موضة هذا العصر – ظلت كما هي، فما تحولتُ عن الشعر إليها وإنما إلى المقالة إذا كان لا بد من التصنيف، وبذلك ظلّت نظرتي إلى الطيب صالح هي ذاتها.. تقدير واضح بداعي الظهور عربياً وعالمياً لا إعجاباً بسحره الروائي. وعلى غير المنطق فإن ما دعاني إلى الاحتفاء بالرجل، فيما يمكن وصفه بالاكتشاف المتأخر لخصوصيته وعبقريته بعيداً عن التلقين، لم تكن مهارته شديدة الخصوصية ككاتب مقالة يُفترض أن تكون وسيطاً لمثلي إلى تجرُّع رواياته لاحقاً بل كانت رواياته ذاتها.. وتحديداً "موسم الهجرة" الأكثر شهرة من بين جميع أعماله. ولن أكابر فأقول إن الذي شدّني في الرواية الفريدة هو الأسلوب - الذي وصفه البعض بأنه في منزلة بين النثر والشعر - بل البناء الروائي إلى ذلك.. وربما قبل ذلك. وعليه فإن أظهر ما أعجبني في "موسم الهجرة إلى الشمال" كان الجزء الروائي الصرف من الظاهرة، ويصح لسوداني مثلي أن ينظر إلى "موسم الهجرة" على أنها أكثر من مجرّد رواية متقنة الصنع لما لها من فضل في تقديم كاتبها السوداني إلى العالم تقديماً بارزاً. والأعمال الريادية عموماً لها مداخل متعددة للتقدير والإعجاب من النواحي الفنية الخالصة، وبذلك يصحّ أن يكون الأسلوب الفريد والجديد سبباً آخر إلى الإعجاب حتى لمن لم يعتد الأسلوب التقليدي للرواية قبلها إلى حدّ الإدمان، كما أن جرأة الفكرة وبسالة التناول عنصران فنِّيان آخران داعيان إلى التقدير والإعجاب بالموسم وصاحبه. استمراراً في المنطق المعكوس لسيرتي مع الأجناس الأدبية والطيب صالح، قادتني روايات الرجل إلى مقالاته فلم أرها أقلّ مدعاة إلى الافتتان سوى أن فتنتها مُنضَجة على نار هادئة، أو لنقل إنها فتنة خِلْوٌ من الهالة التي تحف جلال الرواية، وعليه فإنها فتنة مستحقة أتم الاستحقاق وقد أسبغتها البساطة لا الفخامة سواءٌ فيما يتعلّق بالبضاعة المزجاة أو الصيت الذي يحيط بصنفها الذي تنتمي إليه من بضائع الكلام. الطيب صالح كاتب المقالة ليس بأقلّ من الطيب صالح كاتب الرواية.. على الأقل عندي، فلا يزال أساطين النقاد (ولا أقول كبار عشاق الأدب من المتلقين فحسب) أسارى مطالعة الأجناس الأدبية من وجهة نظر مولعة بالتراتب، وقصارى اجتهادهم على هذا الصعيد إحلال جنس مكان جنس بحيث يظل لديهم في الحساب الأول والثاني والثالث من صنوف الإبداع، لا الأول والثاني والثالث مطلقاً من الأعمال من أيِّ جنس أدبي (أو فنيّ على التوسُّع) كان. الطيب كاتب مقالة رفيع القامة لأنه أدرك ابتداءً أن كتابة المقالة إبداع ليس أدنى من كتابة الرواية فعمد إلى كليهما بذات التبجيل الذي يتقمّص المبدع وهو يدخل إلى محرابه، وقد كان كما رأينا في مقام مضى يُسأل عن سبب انقطاعه عن الإبداع فيجيب بأنه متواجد فيما يكتب على الصحف والمجلات وما يُجمع من ذلك في الكُتب، وكانت تلك بطبيعة الحال إجابة غير مرضية لعشاق صنم التراتبية الأدبية، وربما مستفزة. لكن الكاتب الكبير في إحساسه بالفن وبالحياة، قبل أن يكون كبيراً بمقام مكتسب من رواية او اثنتين، ظلّ يدرك أنه ينفث إبداعاً فلا يهمّ بعدها أن يتشكّل الإبداع رواية أو قصة أو مقالة، ولعل الموهبة المخصوصة بالشعر الكلاسيكي - من حيث تعقيد قياده وزناً وقافية - كما أحبه الطيب صالح هي ما حدا به إلى أن يتناوله ناقداً متذوِّقاً فحسب ولا يتكلّفه كتابةً وهو المولع بالصدق مع الذات ومع الآخر إلى حدّ أن يكف عن كتابة الرواية التي منحته المجد عندما يحس بأن ما ينفثه من إبداع يتشكّل من تلقاء نفسه فيغدو مقالة لا غير. ولا غرو عندي في القول بأن رجلاً مثل الطيب صالح كان يتناول الحياة كلها على أنها ضروب شتى من الإبداع متباين الأشكال والألوان، وعلى هذا فإن جملة أسماره مع أصدقائه أو أي عابر سبيل لم تكن عنده سوى نفثات من الإبداع الخاطف ليست دون الرواية أو المقالة منزلة وإن استعصت على التدوين.