كل عملية حسابية تحتاج للمراجعة لمعرفة هل تمت بطريقة محاسبية صحيحة أو غير ذلك، ولهذا كل الشركات الخاصة تطلب من المراجع القانوني للشركة تقديم تقرير المراجعة السنوي للمساهمين متضمناً موقف حسابات الشركة والكيفية التي تم بها التوريد والصرف وهل تمت القيود بطريقة صحيحة أو مخالفة لأسس المحاسبة والقواعد الأخرى المطلوب مراعاتها في كل عملية، ويقوم المساهمون باتخاذ ما يرونه وفق ما ورد في تقرير المراجع القانوني لأهميته. وبالنسبة للمصالح الحكومية والمؤسسات العامة والوزارات، فإن ديوان المراجع العام يقوم وبصفة دورية روتينية بمراجعة حسابات كل جهة على حدة وتقديم تقريره السنوي العام لرئيس الجمهورية والبرلمان للاطلاع عليه والعلم به، وكذلك تتم مخاطبة كل الجهات الرسمية المعنية بالمخالفات والتجاوزات التي تمت خلال العام والتي تم تغطيتها بالمراجعة، وعلى الجهات المعنية بدورها اتخاذ الخطوات اللازمة لتنفيذ ما ورد في التقرير بما في ذلك القانونية والجنائية ضد كل من ارتكب جرائم تتعلق بالمال العام وتنتهك حرمته. ولكن هل يقوم ديوان المراجع العام بمراجعة كل الجهات الحكومية والأجهزة الخاضعة للمراجعة وفق القانون وهل هناك أي جهات لا تتم مراجعتها بواسطة الديوان ولماذا؟ ألا يهدم الاستثناء وعدم المراجعة بواسطة الديوان القاعدة العامة الأصولية التي من أجلها تم إنشاء ديوان المراجع العام لجمهورية السودان وهي مراجعة كل المال العام لتأكيد حسن وسلامة استغلاله.إن تطبيق القانون على جهات دون غيرها يسلب القانون إرادته وهيبته، لأن التمييز يفرق بين الجهات وبالتالي بين من يعمل في هذه الجهات وكلهم في خدمة الحكومة "الميري". اللهم إلا إذا اتفق المراجع العام، ولأسباب منطقية مقبولة، مع جهة فنية مؤهلة تقوم بالمراجعة بالنيابة عنه وبإشرافه. مع ضرورة أن تكون هناك سياسة واضحة شفافة في هذه الإنابة. ولعدم تشتيت الجهود، وبحثاً عن التخصصية، فمن المستحسن الاستعانة بالإنابة أو التعاقد مع شركات مراجعة خاصة في حالة البنوك الحكومية أو شركات التأمين أو الاتصالات أو البترول أو الشركات ذات المساهمة الأجنبية... ومن مثل هذا العمل يستفيد ديوان المراجعة ويضمن سلامة العمل مع تبادل الأفكار وتلاقحها والانفتاح علي التجارب والممارسات الخارجية. واذا تركنا هذا جانباً، وتناولنا الجهات التي يجوز لديوان المراجع العام القيام بمراجعتها بصفة روتينية، فهل يقوم الديوان فعلياً بمراجعة كل هذه الجهات الحكومية وتقديم التقارير السنوية عنها وكشف "محاسنها" أو كشف "عورتها" وهل تقوم كل هذه الجهات بتقفيل حساباتها حتى تتم مراجعتها وما هو مصير الجهات التي لا تقفل حساباتها وهي كثيرة؟ولماذا هذا الوضع، فهل لأسباب واقعية أم مربوطة بشخص المسؤول الأول ومن معه؟ وهل يتخذ ديوان المراجع العام إجراءات ضد هذه الجهات أم لها أسنان تعض كل يد تمتد لها؟ نطرح هذه الأسئلة المشروعة لديوان المراجع العام وعليه "مراجعة" موقفه وتقديم تقريره. وإذا تركنا هذا جانباً، وتناولنا الجهات التي قام ديوان المراجع العام بمراجعتها وتقديم تقارير تفيد بأن هناك من أساء استغلال المنصب أو تجاوز الحدود أو خان الأمانة... وسنوياً نلاحظ وبشفقة ازدياد الملايين المنهوبة وازدياد الأصفار على اليمين وازدياد عدد "الخونة". فنرجو أن يتناول التقرير السنوي توضيح عدد من تم القبض عليهم مثلاً خلال الخمس سنوات الأخيرة، وعدد من تم التحقيق معهم وعدد من صدرت عليهم أحكاماً بالسجن وعدد من تم إطلاق سراحهم بالبراءة ولماذا؟ من الناحية القانونية، هل يقوم ديوان المراجع العام بتقديم مستندات وبينات "مكربة" لوزارة العدل والنيابة أو أمام المحاكم وهل الشهود الذين يقدمهم أكفاء أقوياء ويلتزمون بالحضور أمام المحاكم لتوضيح ما وجدوه وما رأوه وما اكتشفوه أثناء عملهم. والقاعدة الأصولية أن المتهم بريء حتى تثبت إدانته بما لا يدع مجالاً للشك. ولهذا وغيره، فالجميع يعلم بأن هناك من تلاعب بالمال العام ولكنه أفلت من العدالة بسهولة لسوء التحضير في تقديم البينات والإدعاء ضده. وهنا مسؤولية مهنية يجب على ديوان المراجعة الالتزام بها حتى لا يكون كمن يحرث في البحر. والآن، هناك علم الحسابات الجنائي والاحتيال "فورنسك أكاونتنق آند فرود" لتحليل وفحص المستندات والحسابات والأرقام ودراستها فنياً من الوجهة الجنائية والاحتيالية حتى لا يفلت الحرامية الجناة والمتلاعبون والمزورون. وهذا العلم في تطور وهناك فنيون متخصصون في هذا الشأن فهل يقوم ديوان المراجع العام بالاستعانة بهذه العلوم في عمله،وهي متاحة، أم نسير على الطريقة التقليدية وخبط عشواء في مواجهة الاحتيال والإجرام الحديث المتطور يوميًا. وإذا تركنا هذا جانباً، وتناولنا بعض الممارسات الحسابية الخطأ ومنها ما يعرف ب "التجنيب" فما هو موقف ديوان المراجع العام من الجهات العديدة "القوية" التي تمارس هذا التجنيب وما أدراك ما التجنيب وما به من عدم الالتزام بتقييد الحسابات وفق الطرق القانونية المفروضة المتعارف عليها مهنيًا وفنيًا. والتجنيب هذا يتم عيانًا بيانًا و"على عينك يا تاجر" والتاجر هنا ديوان المراجع العام. فهل تتم مراجعة هذا "التجنيب" المستشري؟ وماذا يقول تقرير المراجعة السنوي عنه وعن ممارسيه؟ وإذا تركنا هذا جانبًا، فهل يقوم ديوان المراجع العام بتنفيذ دوره في فحص اللوائح المالية والمحاسبية ولوائح المشتريات التابعة للجهات الحكومية والتأكد من انطباقها مع المعايير المعروفة العامة، وكذلك مراجعة العقود التي تكون الحكومة طرفاً فيها؟ وإذا كان هذا متبعاً، فكيف لا توجد سياسة مشتريات مركزية موحدة حيث نشاهدالسماسرة وممثلي الولاة والوزراء حايمين في الصين وكوريا والهند ودبي... لشراء الأثاث والسجاد والمعدات المختلفة .. وكل مندوب يشتري على حسب مزاجه وذوقه ورغبته الشخصية ومدى علاقته مع من أرسله. فأين "الدولة" وأين حرمة أموال الدولة من هذه الممارسات المتفشية في "بعزقة" المال العام؟ وزيارة مناديب ديوان المراجع العام للجهات الحكومية كافية ونظرتهم شافية. فهل تشير تقارير المراجعة لهذه الممارسات في استخدام المال العام والضرائب من عرق الساعات الطويلة للمزارع البسيط وست الشاي وسائق الرقشة والدرداقة... ويتم تحصيل الضرائب بشق الأنفس بينما تنفتح ماسورة المشتريات بسهولة وبكل قوة، فهل يتماشى هذا مع السياسة المالية العامة والحرص على المال العام، وما نراه صراحة لا يتم حتى في أغنى الدول وأغنى المؤسسات؟ ولا نستغرب إذا قيل لنا تهكماً "أقرع ونزهي"... واذا تركنا هذا جانباً، نجد الكثير والكثير مما يحتاج للمراجعة ومثلاً هل يتناول تقرير المراجع العام المخالفات الإدارية والهيكلية التي تتم في الجهات الحكومية وبالتفاصيل الكافية التي يعرفها الجميع، وهل يتابع ما يتم بخصوص تصحيح هذه المخالفات الإدارية؟ لأن دور المراجعة الآن، في كل العالم وفي السودان أيضًا، لا ينحصر فقط في متابعة المخالفات الحسابية المالية بل يمتد ليشمل كل المخالفات والتجاوزات ومهما كان نوعها ومصدرها ومن ارتكبها. ومن هذا قد نسمي مهمة ديوان المراجعة "المهمة المستحيلة". فهل يستوعب ديوان المراجعة كل هذه المهام وهل يملك القدرة والمقدرة لتنفيذها؟ والأعمى عندنا يلاحظ التسيب الإداري والمخالفات الإدارية المتنوعة بدون رقيب، فأين ديوان المراجع العام من هذه الممارسات الساقطة، وهل يتناولها ويتناول الحلول في تقاريره السنوية ويتابع نتائجها ويحاسب من يستحق المحاسبة؟ وكبيان للعمل، ما هي الأمثلة؟ وإذا تركنا كل هذا جانباً، نقول إن "أهل مكة أدري بشعابها"، ولكن من واقع المجريات نلاحظ أن ديوان المراجع العام يقوم بدوره بشكل نمطي محض حيث يضع برامج زياراته الروتينية للمراجعة العشوائية لبعض الجهات الحكومية ويقوم بتقديم التقارير التقليدية بصورة ميكانيكية روتينية متكررة "كت آند بيست".فهل هذا يكفي؟ وهل يشفي الغليل؟ نرى أن الدور المناط بالديوان أكبر من هذه النمطية ونحتاج لدور فاعل وأكثر فعالية لا يخلو من الإبداع والابتكار والبصمات الفنية الممزوجة بحب الوطن ومن فيه... وعلى ديوان المراجعة تجاوز الرتابة في عمله والخروج من عنق الزجاجة لتقديم عمل شامل جرئ لتصحيح المسار سعياً نحو الانضباط والممارسة السليمة وفق المعايير الفنية المعروفة مع مراعاة التخصصية المهنية في هذا المجال المهم والحساس..هناك الكثير والكثير من العمل لخدمة البلد والمواطن الغلبان الذي ينظر لكم. أبدأوا بروح ونظرة مختلفة مع بداية العام الجديد لتحقيق الأهداف السامية الملقاة على عاتقكم، وانظروا "خارج الصندوق" لتحقيق المبتغى، وهذا ليس مستحيلاً بل هو في المقدور لمن يتطلع للأعلى... د. عبد القادر ورسمه غالب المستشار القانوني وأستاذ قوانين الأعمال والتجارة بالجامعة الأمريكية بالبحرين Email: هذا البريد الإلكتروني محمي من المتطفلين و برامج التطفل، تحتاج إلى تفعيل جافا سكريبت لتتمكن من مشاهدته