لم يكن أبو مريم السلولي يدرك أن ذلك الجدل والحوار العفوي بينه وبين أمير المؤمنين عمر بن الخطاب سيكون له قيمه تمتد إلى وجدان الناس، ويُكتب له الحضور في أزمان الناس المتعاقبة ويصعد إلى سنام فكر الإسلام كأروع صورة وأجمل لوحة بين الراعي والرعية؛ حوار يحكمه أدب الدين في التبيان وصيانة الحقوق والإنصاف وإقامه العدل المنسجم مع الفطرة السليمة بالتفريق الكامل والحاسم بين الخاص المتروك لهوى النفوس والعام المحكوم بمعيار الدين؛ فالأول جاء تحت مظلَّة الدين المشرعة الذي يجب ما قبله من خطايا وذنوب وأوزار، والتي تضحضها التوبة الصادقة، وأمير المؤمنين في الطرف الآخر وهو على منصة القرار لم تمتد إلى حكمه على الموقف عاطفة الأخوة ولا رغبة الانتقام من قاتل أخيه (ولا غباش) في رؤية الحق الأبلج، واكتسى الموقف بفيوض الإيمان والتاريخ يلتقط أنفاسه ليمجد الفكرة المجيدة ويكتب لها الحياة حتى تتواصل عبر الأجيال لنحتفي بها نحن هنا في مقالنا، وكانت رحمة الدين المحاطة بالعناية الإهية، فجاء الحوار رغم جدليته وبذرة النفور المزروعة فيه؛ جاء الحوار أنيقاً وموضوعياً معياره الدين الخالص والمنصف، ولأن من خصائص الإيمان العميق دغدغة قوائم الثقة والتوكل المحكم في النفس ثم إطلاق اللسان بالشجاعة والقوة دون وجل وخوف من حاكم، ابتدر أمير المؤمنين الحوار سائلاً أبو مريم: أأنت أبو مريم؟، قال نعم، قال: أأنت قاتل أخي زيد، قال نعم، ثم ابتدر الحديث أبو مريم قائلاً: ما قولك عن رجلٍ أكرمه الله بالشهادة وأكرمني بالإسلام، قال عمر إني لا أحبك أبداً، قال أتمنعني عطائي، قال لا، قال أتمنعني حقاً لي، قال لا، قال ما أصنع بحبك اذاً؟، إنما تتباكى على الحب النساء . أسير أنا درسه أمير المؤمنين التي أخذت قوامها وزينتها من الصحبة الطاهرة والقدوهة الباهرة ليتجسد الدين سلوكاً ويتعالى فوق كل الرغبات والشهوات الدنيئة ولتسجل صفحات التاريخ هذه المواقف المحتشدة بالفهم العميق لقيم الدين ومخافة الله في السر والعلن، وهنا حضارة الدين التي بذرت أنبل القيم في الأرض اليباب فأثمرت عدلاً وحرية وتحرراً، وبقي هذا التراث جامداً يعيبه أنه ما زال في خانة العاطفة والوجدان ولم يتثنى له الانتقال لخانة التطبيق والممارسة ولن تكون النهضة بدونهما . محمد علي عبد الجابر