سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.
لمحات من تاريخ مدينة الخرطوم«1 3» في العام 1896م بلغ سكان الخرطوم ربع مليون نسمة80٪ منهم أجانب
تخوف المستعمر من الثورات والإضطرابات فاتجه نحو تخطيط المدينة
الخرطوم عاصمة السودان الحديث، ووريث من سوبا عاصمة مملكة علوة المسيحية وقرى عاصمة مشيخة العبدلاب، عندها يلتقي النيل الأبيض والنيل الأزرق، ومنها يبدأ النيل الكبير مجراه المبارك إلى الشمال. وفد إليها مع غروب شمس سوبا جماعة من المحس عمروا توتي، ومن توتي عبر ولي من أوليائهم النهر ونزل الخرطوم ليبني منه منزلاً وخلوة يرتادها الصبيان ومع نار العلم التي أوقدها هذا الولي بدأ عمران الخرطوم. هكذا يقول أخونا بروفيسور محمد إبراهيم أبو سليم في كتاب تاريخ الخرطوم «الطبعة الثالثة ت«41ه 1991م». تقع مدينة الخرطوم على الضفة اليسرى للنيل الأزرق ممتدة من نقطة التقائه بالنيل الأبيض إلى الشرق في الجريف ومتسعة إلى الجنوب في الضفة اليمنى للنيل الأبيض، وهي في شكل مثلث رأسه عند التقاء النيلين وقاعدته إلى الشرق مستقرة على النيل الأبيض والأزرق وموضعها على خط عرض 6351 شمالاً وخط طول 2323 شرقاً و على إرتفاع 2531 قدماً فوق سطح البحر. ورد ذكر مدينة الخرطوم على ألسنة الشعراء و الأُدباء والفنانين على مختلف الأزمان وها هو الشاعر الفذ التجاني يوسف بشير في ديوانه المعروف «إشراقة» يصف الخرطوم بالزهرة المؤنقة ويثبت لها قصيدة كاملة تحمل اسمها «الخرطوم» يقول مطلعها : مدينة كالزهرة المؤنقة تنصح بالطيب عن قطرها ضفافها السحرية المورقة يخفق قلب النيل على صدرها تحسبها أُغنية مطرقه نضمها الحسن على نهرها مبهمة الحانها مطلقة رجعها الصيدح من طيرها وشمشها الخمرية المشرقة تفرع كأس الضوء في بدرها هكذا بدت الخرطوم في أعيُن السودانيين ولما كانت هذه المدينة تعرضت لتغيرات جغرافية وديمقرافية كبيرة رأينا أن نثبت بعضاً من تاريخها والتغيرات التي صاحبتها بمختلف الحِقب. ٭ الخرطوم قاعدة عسكرية تتكون عاصمة السودان من ثلاث مدن هي (الخرطوم ، الخرطوم بحري، وأم درمان) وكل مدينة من هذه المُدن الثلاث قامت في ظروف تختلف عن ظروق المدينتين الأخريتين وتمت في ظروف مغايرة إلا أن ظروفاً أخرى ايضاً كانت تشد هذه المدن إلى بعضها لتواجه مصيراً واحداً وتخلق روابطاً موحدة. هي المدينة الأولى ولعلها الأهم الآن وقد ظهرت مدينة الخرطوم إلى الوجود بعد الفتح المصري بسنوات قليلة، كما يقول بروفيسور محمد ابراهيم أبو سليم واتخذت مكانها بعد أن ولدت كقاعدة عسكرية صغيرة تكون عوضاً عن عواصم السودان السابقة سنار، حلفاية الملوك، الفاشر، وهي عاصمة تتوسط أقاليم السودان الشاسعة وتربطها ادارياً وتجارياً وعسكرياً وليست مثل سنار العاصمة التي كانت تحكم الفونج ذات المساحة المحدودة أو الحلفايا التي كانت تحكم مشيخة العبدلاب أو الفاشر التي كانت تحكم دارفور. والأخيرة كانت بغير شك قوى نفوذاً نظراً إلى أن حكم سلاطين الفور كان حكماً مركزياً وكانت سلطة السلطان مهمته على كل شيء وتمتد يده إلى كل صقع في حين أن سلطة سنار والحلفايا كانت محدودة لأن شيوخ القبائل والمناطق كانوا يتولون أمورهم الخاصة. ٭ شيدت المدينة على نمط البحر الأبيض ويواصل بروفيسور محمد ابراهيم في وصف مدينة الخرطوم فيقول«إذن مدينة الخرطوم مدينة جديدة في مفهومها وفي دورها الذي أُريد لها وهي جديدة ايضاً لأن الإعتبارات العمرانية التي وضعت كانت تختلف عن إعتبارات مدن السودان التقليدية فهي قد خططت وشيدت على النمط كان سائداً في بلاد البحر الأبيض المتوسط حسبما استوحاه المصريون ولعل السوداني كان يلاحظ هذا الفرق عندما ينتقل من مدينة تقليدية مثل الفاشر وبربر وسنار إلى هذه المدينة الجديدة ، ولعلنا نتذكر هنا مدينة سواكن التي قامت على نمط مدن البحر الأحمر عمرانياً وكانت بعيدة كل البعد عن مدن شرق السودان التقليدية، ولعل هذا هو الذي أسرع بخرابها عندما انتقل النشاط التجاري. ٭ تكوينات المدينة الجغرافية المسؤول عن نشأة الخرطوم وتخطيطها وعمرانها ثلاثة من حكام الترك هم عثمان جركس البرنجي الذي اختار الموقع وبدأ فيه أساس العمران وعبد اللطيف باشا الذي شيد معظم الدور الحكومية وخورشيد باشا الذي قام بالدور العمراني الأكبر في المدينة. كانت هذه المدينة تمتد شرقاً وغرباً على ضفاف النيل الأزرق مابين حدائق الحيوان وبين وزارة الصحة حالياً والمنطقة التي تقع غرب هذه المنطقة التي حددناها كانت عبارة عن حدائق وبساتين وسواقي وكان الفيضان يغطي أجزاء كبيرة من هذه المنطقة وإلى الجنوب منها فإذا انحسر الفيضان كانت الأحراش، ولعل غابة الخرطوم الحالية بقية من بقايا تلك الأحراش. والمنطقة التي كانت تقع شرق المدينة كانت ايضاً عبارة عن حدائق وبساتين وكان العمران البشري هنا التف مما كان بجهة الغرب وكان أغلب السكان من المحس الذين وفدوا من جزيرة توتي والمناطق المحيطة بالخرطوم. وحسب التخطيط الذي وضع استأثرت الدواوين الحكومية مثلما هو الحال الآن بالمنطقة الواقعة على النيل وقد تتوسط سراي الحكمدار هذه الدور وكان هذا السراي هو مسكن الحكمدار وفي مكانه شيد القصر الجمهوري وإلى جهة الغرب من السراي كان قصر الحكومة وهو مقر عمل الحكمدار ومساعديه وتقع الدواوين الأخرى حول القصر شرقاً وغرباً وجنوباً ، ثم كان هناك الحي السكني الرئيسي الذي خصص للأثرياء وهو حي المسجد ويرجع الفضل في تطوير هذا الحي إلى خورشيد باشا ثم هناك أحياء شعبية بشرق هذا الحي وجنوبه. ٭ 08% من السكان أجانب ويواصل بروفيسور ابو سليم السرد الرائع عن تاريخ الخرطوم فيقول «عند بناء الخرطوم ظهرت الحاجة إلى الحرفيين من البنائيين والنجارين والحدادين وهؤلاء قد إستجلبوا من مصر لأن هذا النوع الجيد من البناء لم يكن معروفاً في السودان، وتوفير الفنيين كان هو اول ما واجه بناء المدينة ثم واجههم أمر آخر هو توفير مواد البناء وقد أفادنا اخبار هذه الفترة بما صنع خورشيد فهو قد أعان بمواد البناء وشجع وأمر ثالث شغل المسؤولين وهو ضبط الفيضانات والسيول حتى لا تقضي على المدينة. اما سكان الخرطوم فكانوا خليطاً من السودانيين والأجانب وقد قدر السكان في العام 6981م بربع بليون نسمة وكان خمسة هؤلاء سودانيين اما الآخرون فكانوا أجانب من مصر وأقطار البحر الأحمر المتوسط والقليل كان من بلاد اوروبا الوسطى والشمالية. ٭ التخطيط والأغراض العسكرية بعد موقعة كرري جاء الإنجليز ليعمروا مدينة الخرطوم وليتخذوها عاصمة كما كانت في عهد الترك والرجل المسؤول عن هذه الفكرة والتخطيط لها هو كتشنر باشا الذي قاد حملة الفتح وقد تمثل في ذهنه العلم البريطاني فيما يقال فشق الشوارع الرئيسية حسب خطوط هذا العلم وأدى ذلك إلى تقاطع المدينة الرئيسية على أننا نعتبر أن التخطيط قد تم بمقتضى الأهداف العسكرية لأن القوم كانوا يتصورون ثورات قادته وإضطرابات، ولهذا جاء التخطيط بحيث يسهل التحكم على المدينة في أوقات الشدة، هناك شوارع صغيرة انشأوا الصواني ومن الواضح أن من يجلس على صينية ومعه البندقية يستطيع أن يسيطر على عدد من الشوارع ، فالفكرة في التخطيط من الجانب العسكري واضحة جداً ولما كانت الشوارع واسعة ومستقيمة فإنها لم تشكل عقبة مستعصية عندما جاءت السيارات ومع ذلك أدخلت بعض التعديلات وفق مشاكل السير. ٭ التركيبة السكانية يصف د. أبو سليم من خلال كتابه تاريخ الخرطوم للأحياء السكنية بالخرطوم، وقد ذكر أن من أهم الأحياء السكنية هي المسجد الذي بناه خورشيد باشا وكان من أهم معالم هذا الحي المسجد المذكور وهو المسجد الذي صلى فيه الإمام المهدي في أول زيارة له لمدينة الخرطوم بعد سقوطها في يده ثم السوق وكان قسمها إلى قسمين السوق العربي والسوق الأفرنجي وكان كل منهما يتكون من أربعة شوارع وكانت بيوت الأهالي في هذا الحي مبنية بالطين والشكاب وجلود البقر والقش ولم يكن بها منازل بالطوب الأحمر إلا العدد القليل، وقد شجع خورشيد باشا الأهالي على التعمير وظل يمدهم بالأخشاب والألواح فحلت المباني الراقية كل بيوت الشكاب والقطاطي والزرائب ومع مضي السنين صارت هذه البقعة مكان مسكن علية القوم وسراتهم فأقيمت فيها القصور وسكنها كبار التجار والأعيان والأجانب.. بينما تراجع الفقراء إلى أطراف المدينة وكان من هذه القصور قصر على الخلوجي وكان مقاماً في المكان الذي به قصر السيد علي الميرغني الآن وقصر الخواجة جورج تشادي الذي كان مشيداً في المكان الذي به سراي السيد علي الميرغني واستراحة الري المصري وكان من القصور المهمة قصر الجاركوك، وقد خصص هذا القصر لسكن الإمام المهدي بعد سقوط المدينة وكانت هناك احياء شعبية والتي كان يسكنها عامة القوم من دون كبار الموظفين وسراة المدينة وقد قامت هذه الأحياء في أطراف المدينة وكان جل سكانها من المواطنين من هذه الأحياء حي سلامة الباشا وكان موضعه في الجزء الغربي من المدينة ومكانه جنوب السوق العربي وكان سكانه من الدناقلة والنوبة وغيرهم من أهل البلد ويعتبر هذا الحي من أقدم أحياء المدينة ثم حي النوبة ونقصد به بعض الوافدين من جبال النوبة وهم بخلاف الوافدين من حلفا، وكان هذا الحي يقع إلى الشرق من حي سلامة الباشا، وكان سكانه في الغالب من النوبة والمتقاعدين من خدمة الجيش. وفي المنطقة الواقعة غرب شارع الحرية كان حي الترس وكان سكان هذا الحي من المصريين والسودانيين وكان هنالك حي الكارة وهو حي يسكن فيه العسكر من المصريين والسودانيين وحي الطبنجية وفي أقصى الشرق كان حي بري المحس وهو حي الوطنيين من أهل الجهة ، وقد ظل هذا الحي في مكانه إلى أن نقل إلى موضعه الحالي بالبراري وأقيمت مكانه سكنات الجيش البريطاني. كان لابد من إستعراض هذه المقدمة الرائعة حقاً من خلال اطلاعي على كتاب الأخ العزيز بروفيسور أبو سليم «تاريخ الخرطوم» بإعتبار هذه المقدمة بمثابة مدخل تارخي للخرطوم منذ تأسيسها في مطلع القرن الماضي من ناحية تخطيطية عمرانية، وهذا ما سنعرضه في الحلقة القادمة إن شاء الله. هوامش: 1/ تاريخ الخرطوم بروفيسور محمد إبراهيم أبو سليم 1141ه 1991م 2/ ديوان إشراقة للتجاني يوسف بشير