بقلم: بخاري بشير كاتب وسكرتير تحرير صحيفة الرأي العام السودانية ما جرى ليلة ثاني أيام عيد الفطر المبارك في ولاية النيل الأزرق، لم يكن هجوماً مباغتاً نفذه الجيش الشعبي ضد القوات المسلحة السودانية، كما لم يكن تخطيطاً مفاجئاً أعدته بليل الحركة الشعبية قطاع الشمال، لكنه كان تحركاً مكشوفاً، له أبعاده الأمنية والسياسية. أحداث وخلفيات ماتم في ولاية النيل الأزرق لا ينفصل عن بعض الأحداث بخلفياتها المصاحبة لها، مثل حديث عرمان لصحيفة الرأي العام قبل شهرين: "بديل اتفاق أديس الإطاري سيكون حرباً تمتد من النيل الأزرق وجنوب كردفان إلى دارفور". سبق له أن قال ذات الحديث لجريدة الصحافة، في أعقاب الانفصال في التاسع من يوليو الماضي، وذلك حينما همّ قطاع الشمال بتكوين حزب للحركة الشعبية بالشمال يحمل فكر السودان الجديد. ؛؛؛ الحركة الشعبية قطاع الشمال هل خططت منذ البداية إلى جعل التمرد في جنوب كردفان والنيل الأزرق تحقيقاً لنموذج بنغازي ومن ثم غزو العاصمة الخرطوم؟ ؛؛؛ بالإضافة للتمرد الذي قاده عبد العزيز الحلو في ولاية جنوب كردفان وقوله يومئذ: "إن الهدف من تحركهم تغيير النظام في الخرطوم إلى نظام ديمقراطي يحفظ حقوق الآخرين". وما حدث لا يبعد كثيراً عن تصريحات مالك عقار وقوله : "الكتوف اتلاحقت، هو عندو قصر وجيش وأنا عندي قصر وجيش"، ذلك بعد إعلان الرئيس البشير لوقف إطلاق النار. اتفاق كاودا ونموذج بنغازي هل خططت الحركة الشعبية قطاع الشمال منذ البداية إلى جعل التمرد في جنوب كردفان والنيل الأزرق تحقيقاً لنموذج بنغازي ومن ثم غزو العاصمة الخرطوم؟ وهل كان في نية المتمردين بسط خطوط إمداد تأتي من الدولة الوليدة في الجنوب؟. إن توقيع تحالف (كاودا) مع عبد الواحد محمد نور ومني أركو مناوي وحركة العدل والمساواة في أغسطس الماضي لم يكن بعيداً عن الأوضاع الملتهبة التي تشهدها النيل الأزرق حالياً، كما لم يكن بعيداً عما شهدته قبلها ولاية جنوب كردفان وهروب الحلو. وكرر قطاع الشمال ذات السيناريو في الدمازين، وتشابهت النتائج وتطابقت وقع الحافر على الحافر، حتى مرحلة الهروب الكبير. وقود الاشتعال تصريحات رئيس دولة الجنوب سلفاكير ميارديت في كلمته بالاحتفال بالدولة الوليدة التي قال فيها: "إننا لن ننسى المهمشين في النيل الأزرق وجنوب كردفان ودارفور، فنحن نبكي لبكائهم ونتألم لألمهم"، سبق أن ذكرنا في غير هذا المقام، أنها لا يجب أن تمر مرور الكرام، فكل الذي يحدث في المناطق الثلاث "النيل الأزرق وجنوب كردفان وأبيي"، كان بسبب تلك التصريحات، التي جعلت قيادة الحركة الشعبية تتلكأ في الإنتهاء من البروتكولات الأمنية الخاصة بهذه المناطق وتستبعد المشورة الشعبية في النيل الأزرق، وأجلت القضايا لتصبح خميرة (تعكنن) مزاج دولة السودان، ووقوداً قابل للاشتعال في سبيل إحياء "فكر السودان الجديد". البحث عن أدوار من قاموا بإشعال حريق النيل الأزرق ومن سبقوهم بإشعال حريق كادوقلي كان همهم زيادة وزنهم السياسي عن طريق "السلاح" لتبقى جذوة الحوار متقدة عبر وسطاء لا ينقطعون، ومن ثم الإبقاء عليهم ك"شخصيات مؤثرة وذات نفوذ في العملية السياسية". وإيجاد أرضية تفاوضية يتم معها تحقيق أهداف هذه الشخصيات، وخلق وضع جديد للمأزومين من قطاع الشمال الذين فاتهم قطار الحركة الشعبية بالإنفصال، وحرموا من مكاسبه، لأن الانفصال كرس المكاسب في أيدي فئة قليلة من أبناء الجنوب، ومن بعد البحث عن أدوار جديدة للشماليين من الحركة الشعبية من خلال توقيع اتفاق أقرب إلى "نيفاشا" كما كان مأمولاً من "نيفاشا تو". رفاق النضال ما يحدث الآن في النيل الأزرق وجنوب كردفان شبيه بما كان عليه د. جون قرنق سابقاً، حيث كان تمرداً مدعوماً من الخارج، بل الأخطر في واقع الأمر أن هذا التمرد يمتاز على تمرد د. قرنق بأمرين هما في غاية الخطورة بالنسبة لحكومة الخرطوم، أولهم أن قرنق لم تكن له خطوط خلفية تدعمه غير بعض المعسكرات في دول صديقة له، أما التمرد الحالي الذي يقوده عقار والحلو يملك عمقاً دولياً تمثله "دولة الجنوب" حيث هم رفاق الأمس أصدقاء اليوم وهو عمق تدعمه الفكرة الواحدة والنضال المشترك. ؛؛؛ حريق النيل الأزرق من قاموا بإشعاله ومن سبقوهم بإشعال حريق كادوقلي كان همهم زيادة وزنهم السياسي عن طريق "السلاح" لتبقى جذوة الحوار متقدة عبر وسطاء لا ينقطعون ؛؛؛ والأمر الثاني وهو الأهم انتقال مكان الصراع إلى مواقع حساسة وحيوية بالنسبة للدولة في الخرطوم، الصراع الآن في الدمازين وداخل جنوب كردفان، حيث تمثل الأولى منطقة إمداد كهربائي مهم وذات جدوى اقتصادية كبيرة ولها تداخل مع شرق السودان، وتمثل الثانية عمقاً ذا أهمية كبيرة ولها تداخلات مع مناطق نزاعية أخرى هي دارفور وكردفان وجبال النوبة. مستحيلات د. قرنق وذات الأمرين كانا من المستحيلات في تمرد د. جون قرنق حيث قاتلت الحركة الشعبية لثلاثة وعشرين عاماً، ولم تتمكن من دخول الدمازين بل كانت تقاتل على تخوم الكرمك، وتمكنت من احتلالها في حكومة الصادق المهدي واستعادتها القوات المسلحة في حكومة البشير. ما كانت أرض المعارك للتمرد الأول بقيادة د. قرنق بعيدة كل البعد عن مناطق القتال الحالية، بل إن القوات المسلحة السودانية تمكنت من هزيمة قرنق عسكرياً في كل محاور القتال في جنوب السودان، وفشل د. قرنق في أن تكون له أرض سودانية تحت حراسة بندقيته، الأمر الذي دفعه في نهاية المطاف إلى السعي لمحاورة الحكومة وأن يأخذ بالحوار ما عجز أن يأخذه بالحرب، فكانت نيفاشا التي يعتبرها البعض أكبر مكيدة دبرت بالخارج، ووقعت في شراكها حكومة الخرطوم ونخبتها الحاكمة. ؛؛؛ نيفاشا أخذت كل الجنوب وأعطته للجنوبيين الشئ الذي يعطي أبطالها من شماليي الحركة آمالاً عريضة لا تقل عن تلك التي حققوها لذلك هم أكثر الساعين الآن "لنيفاشا تو" ؛؛؛ أخطاء نيفاشا يقول العالمون ببواطن الأمور إنه ليس هناك حرب إلى ما لا نهاية، فإما أن يهزم طرف حتى مرحلة الزوال والتلاشي، وإما أن يجد منفذاً للحوار، بل إن الشاطر من يحقق أحلامه بالحوار، وهو ما نجحت فيه الحركة الشعبية بدرجة امتياز وتحقيقها لحلمها بميلاد دولة جنوب السودان، عن طريق "فخ" نيفاشا الذي نصب شباكه مستشارو الخارج الأقوياء، ونفذه د. قرنق وتلامذته النجباء. بقي أن نقول إن نيفاشا أخذت كل الجنوب وأعطته للجنوبيين الشئ الذي يعطي أبطالها من شماليي الحركة آمالاً عريضة وينفخ في أشرعتهم رياح الأمل لتحقيق أحلام أخرى لا تقل عن تلك التي حققوها لذلك هم أكثر الساعين الآن "لنيفاشا تو". ومن البديهي لدولة أخذت فكرة المحاورة كمبدأ لمناقشة معارضيها المسلحين أن تتجه نحو هذا الأمر، لكن عليها وهي تحذو حذو نيفاشا أن تبعد عن عيوبها، وأن تتعظ من تجاربها السابقة، وتحسبها ألف مرة قبل التوقيع، لا نريد تكرار أخطاء نيفاشا فهي أخطاء أوقعت البلاد بأسرها في أتون التقسيم ولم تسفر عن سلام بل أصبح سلام نيفاشا سلاماً متوهماً لا وجود له في أرض الواقع.