كانت اتفاقية مشاكوس في يناير عام 2005م نتيجة مفاوضات شاقة ما بين النائب الأول لرئيس الجمهورية الأستاذ/ علي عثمان محمد طه وزعيم حركة التمرد الجنوبية الراحل جون قرنق واستغرقت 9 أشهر. ثم جاءت اتفاقية مشاكوس الإطارية في 20 يوليو عام 2002م لتحدث الاختراق الأهم الذي أدى إلى توقيع اتفاقية السلام الآنفة الذكر والتي نصت على حق تقرير المصير لجنوب السودان بما في ذلك إمكانية انفصاله عن الدولة الأم. وهذا ما حدث بالفعل في التاسع من يوليو عام 2011م بعد 6 أشهر من استفتاء يناير 2011م الذي صوت فيه أكثر من 90% من الجنوبيين لصالح الانفصال الذي كان من المأمول فيه أن يؤدي إلى قرارات سلمية مستقرة بين الشمال والجنوب، بل إن هذه الغاية هي الدافع الرئيسي لتضمين الاتفاقية حق تقرير المصير لجنوب السودان. ؛؛؛ حكومة جنوب السودان تعمل على إثارة الفتن والغلاغل عن طريق قواتها في شمال السودان، على الرغم من أن مجرد وجود هذه القوات يعتبر خرقاً للاتفاقية ؛؛؛ الأوضاع تميل إلى الحرب واليوم وبعد أكثر من ثلاثة أشهر على انفصال جنوب السودان فإن مجمل الأوضاع تميل إلى الحرب، وتعمل حكومة جنوب السودان على إثارة الفتن والغلاغل عن طريق قواتها في شمال السودان، على الرغم من أن مجرد وجود هذه القوات يعتبر خرقاً للاتفاقية. ولعل أحداث ولايتي جنوب كردفان والنيل الأزرق هي الشاهد الأهم على النوايا الحقيقية لحكومة جنوب السودان رغم ادعاءاتها العريضة بسعيها إلى تحقيق السلام والاستقرار وبناء علاقات متينة بينها وبين حكومة السودان. منذ اندلاع تمرد توريت في 18 أغسطس 1955م استمرت الحرب بين شمال السودان وجنوبه ولفترات طويلة باستثناء الهدنة التي استمرت لعشر سنوات بعد توقيع اتفاقية أديس أبابا في الثالث من مارس عام 1972م بين حركة التمرد الجنوبية بقيادة اللواء/ جوزيف لاقو وحكومة الرئيس الراحل جعفر محمد نميري. إنهاك سياسي واقتصادي وقد أدى هذا الواقع غير المستقر نتيجة الحرب وتداعياتها إلى عدم الاستقرار السياسي والإنهاك الاقتصادي وتدمير قدر كبير من البنية التحتية للبلاد ولاسيما في جنوب السودان حتى إذا ما وقعت اتفاقية أديس أبابا وحدث قدرٌ من الاستقرار وقامت عدد من مشاريع التنمية دمرتها حركة التمرد الجنوبية الأخيرة المسماة بالحركة الشعبية لتحرير السودان بقيادة المتمرد الراحل جون قرنق. وخلال 21 عاماً هي مجمل سنوات الحرب في دورتها الأخيرة حدث قدرٌ كبير من الدمار والقتل وتشريد الأهالي، الأمر الذي جعل السلام ضرورة لتحقيق الاستقرار حتى وإن كان على حساب وحدة البلاد ولاسيما أن الاختلافات العقدية والأثنية والحضارية بين شمال السودان وجنوبه كبيرة، كما أن جنوب السودان أقرب إلى كينيا أو يوغندا أو تنزانيا منه إلى شمال السودان بنمطه الحضاري العربي الإسلامي. ولئن كانت الحرب في زعم تجار الحروب الذين يشعلونها وسيلة إلى تحقيق الغايات التي يسعون إلى تحقيقها إلا أن الحرب والدمار الذي تحدثه ليست وسيلة العقلاء في تحقيق غاياتهم ومن ثم فإن الحرب هي الاستثناء الذي ينبغي تجاوزه بكافة الوسائل الممكنة وإن يكن بقدر غير يسير من التنازلات المؤلمة والتي من أهمها حق تقرير المصير لجنوب السودان. خطة تقسيم السودان وفي التاسع من يوليو 2011م حققت حركة التمرد الجنوبية ما تريده بانفصال جنوب السودان ولكن أوهام حركة التمرد الجنوبية لم تنته بانفصال جنوب السودان فسعت إلى تفجير الأوضاع في جنوب كردفان وفي ولاية النيل الأزرق. وهذا ما أطلق عليه ياسر عرمان مصطلح "الجنوب الجديد" وتحت ستار ما تسميه الحركة بزحف الهامش والمناطق المهمشة على المركز لإسقاط النظام القائم وبناء السودان الجديد الذي يحمل مضموناً عنصرياً وعرقياً مسكوتاً عنه. وهو إعلاء شأن العناصر غير العربية وغير المسلمة في السودان والارتداد بتاريخ البلاد إلى ما قبل الإسلام وبناء دولة كوش الجديدة، التي لا علاقة لها بالعروبة والإسلام بل هي نقيض كليهما وهي الدولة التي يريدونها ويجعلونها حاجزاً وخط دفاع أول عن مصالح واستراتيجيات الغرب الأوروبي والأميركي في القارة الأفريقية بل إن المخطط الغربي كان يعمل ومنذ عقد الستين من القرن الماضي إلى تقسيم السودان إلى 5 دويلات. ثم جاءت خطة المستشرق البريطاني المتصهين برنارد لويس داعمة لهذا الاتجاه وهي الخطة التي اعتمدها الكونغرس الأميركي في عام 1980م. ولكن ما هي فرص نجاح مثل هذه الخطة؟. المخطط والأزمة العالمية في الظروف الدولية الراهنة فإن الأزمة الاقتصادية العالمية والتراجع الأميركي النسبي في العالم وانشغال الغرب الأميركي والأوروبي بمشاكله الداخلية وتفجر مشكلات الفقر والبطالة في الولاياتالمتحدة الأميركية بل وانهيار اقتصادات عدد من الدول الأوروبية (اليونان وإيطاليا مثلاً)، كل تلك العوامل مجتمعة لا تسمح لمثل هذا المخطط أن ينفذ. وفي ظل الظروف الإقليمية الراهنة فإن جمهورية السودان ورغم ما تعانيه من مشاكل ما بعد الانفصال ولاسيما في شقها الاقتصادي إلا أنها قوة إقليمية يحسب لها ألف حساب كما أن مجمل التجربة الإنسانية أثبتت أن انفصال إقليم من أقاليم الدولة عن الدولة الأم يجعل الدولة الانفصالية أضعف وأقل شأناً في مجمل عناصر القوة الشاملة للدولة (الاقتصاد- القوة السياسية - القوة العسكرية... إلخ) كما يجعل الدولة الأم متفوقة على هذه الدولة الانفصالية وعلى نحو كبير بما لا يقارن. ؛؛؛ الاختلافات العقدية والأثنية والحضارية بين شمال السودان وجنوبه كبيرة، كما أن جنوب السودان أقرب إلى كينيا أو يوغندا أو تنزانيا منه إلى شمال السودان بنمطه الحضاري العربي الإسلامي ؛؛؛ وهذا ما ينطبق على مجمل الأوضاع العسكرية والاستراتيجية والعسكرية ما بين دولتي السودان وهذا يعني أن دولة الجنوب يمكن أن تؤذي جمهورية السودان وأن تتسبب في صراعات وحروب مدبرة ولكن حكومة السودان تستطيع أن ترد رداً مدمراً على مثل هذه الأعمال الطائشة التي ترتكبها حكومة الجنوب. وكما أشرنا آنفاً فإن توازنات القوى لا تسمح بمثل هذه العمليات الانتحارية بل إن حكومة السودان يمكنها أن تغلق الحدود بين دولتي السودان لأسبوع أو أسبوعين لتحدث مجاعة لا تبقي ولا تذر في الجنوب. أوهام حكومة جنوب السودان في التاسع من يوليو الماضي وهو نفس تاريخ انفصال جنوب السودان زار الرئيس عمر البشير جوبا على رأس وفد كبير من حكومة السودان ليعلن اعترافه ومباركته لقيام دولة جنوب السودان ويعلن أنه يأمل في بناء علاقات ودية مع حكومة الجنوب. وهذا ما لم يتحقق بغض النظر عن الأمنيات الطيبات للرئيس عمر البشير بسبب أوهام حكومة الجنوب حول السودان غير العربي وغير الإسلامي وهي الأوهام التي تغذيها الولاياتالمتحدة الأميركية باعتبار السودان جزء من القرن الأفريقي أو من شرق أفريقيا ولا تعترف بأنه دولة عربية إسلامية. الأمر الذي قادها إلى صناعة استخبارية مكلفة ولا جدوى منها وهي صناعة من تسميهم بالقادة الأفارقة الجدد (موسيفيني، قرنق... إلخ) وهؤلاء القادة الاستخباريون شديدو العداء لكل ما هو عربي وإسلامي وهم على استعداد دائم لشن الحرب ضد كل ما هو عربي وإسلامي. ولعل حكومة جنوب السودان وقادتها من ذلك النمط ولكن سيظل هنالك فارقٌ هائل ما بين حقائق الأشياء وأوهام الآيديولوجيات التي تخلط ما بين الواقع والأماني، فهل تعني الولاياتالمتحدة الأميركية هذه الحقيقة؟ وهل يدرك الرئيس سلفاكير هذا الفارق بين الأوهام التي يحملها وحقائق الأشياء كما هي؟. ؛؛؛ السياسة وكما يعرفها بعض الدارسين هي (فن الممكن) في إطار حقائق موضوعية لا يمكن القفز من فوقها وإلا كانت النتائج مدمرة ؛؛؛ السياسة وفن الممكن إن السياسة وكما يعرفها بعض الدارسين هي (فن الممكن) في إطار حقائق موضوعية لا يمكن القفز من فوقها وإلا كانت النتائج مدمرة كما حدث لعبد العزيز آدم الحلو في جنوب كردفان ولمالك عقار في ولاية النيل الأزرق حينما تجاوزا حقائق الأشياء وتوهما أن جيشاً قوياً متمرساً ومحترفاً كالجيش السوداني يمكن أن تقهره بعض العصابات فتحتل الولايتين تمهيداً للقضاء على النظام الحاكم والمنظومة الحضارية العربية الإسلامية التي يمثلها فكان ما كان من أمرهما. والآن وبعد كل ما حدث هل تعقل حكومة الجنوب أو تعي وهل تخرج عن أوهامها فتقيم علاقات سلمية مع حكومة السودان؟ وهل تدرك قوة عظمى كالولاياتالمتحدة الأميركية أن أوهامها قد أوقعتها في كوارث هائلة في ماضيها القريب (فيتنام- أفغانستان- العراق)، وستوقعها في كارثة أشد وأنكى في السودان. أم أن الرئيس سلفاكير وحليفه الأميركي يريدان الانتحار.