قبل الدخول في متاهات تحليل الصراع على رئاسة الجبهة الثورية بين كل من مالك عقار وجبريل إبراهيم، فإن لي ملاحظة أولية، وهي أن العاصمة الفرنسية باريس تبدو عاصمة المفاجآت بالنسبة لقضايا السودان في أزمنتها الحالية. من باريس خرج حزب الأمة القومي على السودانيين بالتوقيع على إعلان مثير للجدل مع الجبهة الثورية، اختلف سياسيو الداخل بين تجريمه وكراهيته وبين التحمس له وتأييده، كما فعل ذلك الطيب مصطفى أعتى المعارضين السياسيين للجبهة الثورية. وفي العاصمة الفرنسية، يعتصم عبدالواحد نور ويتخندق ضد أي محاولة لانخراطه في مفاوضات مع الحكومة السودانية مهما كان حجم الوساطة وثقل الوسيط، ولم تفلح حتى قطر في إجبار باريس على التحاق عبدالواحد بمفاوضات الدوحة. ومن باريس الآن انفض اجتماع الجبهة الثورية بخروج مالك عقار غاضباً على الحركات الدارفورية التي توافقت أخيراً على رئيس جديد يخلف عقار في رئاسة الجبهة الثورية التي تمثل تجمعاً سياسياً عسكرياً فضفاضاً ناظمه الوحيد معارضة الحكومة. العودة للصراع بالعودة إلى الصراع على رئاسة الجبهة الثورية والذي حسمته حركات دارفور المسلحة بالتوافق على جبريل إبراهيم بدلاً عن مالك عقار، فإنه يعني عملياً أن الحركة الشعبية قطاع الشمال قد خسرت أهم مرتكزات مشروعها الفكري- السياسي المبني على تجميع أهل الهامش، بل واحتكار تمثيلهم والتعبير عنهم. مالك عقار وياسر عرمان وعبدالعزيز الحلو الآن أمام واقع جديد هو من صنع أيديهم. هذا الواقع يقول إن الحركة الشعبية أصبحت بعد اجتماع باريس ترلة في قاطرة الجبهة الثورية التي يقودها جبريل إبراهيم رئيس حركة العدل والمساواة الدارفورية. وهو أمر شديد الوطأة والثقل على هؤلاء الثلاثة، فهم يرون أن الحركة الشعبية هي التي صعدت بقضية دارفور وأعطتها الزخم والبعد الدولي، ووفرت الدعم للحركات المسلحة من لدن عبدالواحد محمد نور إلى مناوي وحتى جبريل إبراهيم، فليس معقولاً بعد ذلك أن يأتمروا بأمر من صنعوه. الحلفاء الدوليون " حزب الأمة القومي برئاسة الصادق المهدي يعتبر من أكبر الخاسرين بما حدث في باريس، فالحزب بهذا الانقسام خسر كتلة معارضة كان يتقوى بها في مواقفه الرافضة للحوار الوطني " خيارات الحركة الشعبية للقفز فوق حقائق اجتماع باريس تمضي في اتجاهين، الأول محاولة الاستعانة بمن تسميهم الحلفاء الدوليين بغرض الضغط على حركات دارفور للتنازل مرة أخرى لصالح الحركة الشعبية أو بمحاولة تكوين جسم رئاسي للجبهة الثورية بدلاً من رئيس واحد، أو عبر اختيار شخصية توافقية للرئاسة من خارج المنطقتين ومن خارج دارفور. هناك خيار آخر بالنسبة للحركة الشعبية يتيحه لها دعوة أمبيكي للتفاوض مع الحكومة الأسبوع الأول من الشهر القادم بأديس أبابا، هذا الخيار يحتم على الحركة الشعبية التركيز بصورة أكبر على قضايا المنطقتين، ومحاولة الخروج بمكاسب أكبر في هذا المسار والتخلي عن اللعب بورقة قضايا الهامش والمناطق المأزومة، لأن الحركة لا تتوافر على غطاء سياسي ولا عسكري يمكنها من الضغط على المفاوض الحكومي خارج نطاق المنطقتين. في تقديري، أن حزب الأمة القومي برئاسة الصادق المهدي يعتبر من أكبر الخاسرين بما حدث في باريس، فالحزب بهذا الانقسام خسر كتلة معارضة كان يتقوى بها في مواقفه الرافضة للحوار الوطني. المكونات السياسية لكن أمر الجبهة الثورية لن ينته عند هذا الحد، فالمكونات السياسية للمعارضة لا بد أن تتخذ موقفاً من الشرخ الكبير الذي حدث في باريس للجبهة الثورية على مستوى الرئاسة بأيلولتها إلى جبريل إبراهيم بدلاً من مالك عقار. والحقيقة هي أن هذا الصدع الكبير ليس صدعاً في رئاسة الجبهة الثورية فقط، ولكنه (صداع في رأس الجبهة الثورية) وسينسحب هذا الشرخ على كل شيء تقريباً يخص المعارضة بشقيها العسكري والسياسي. حركة العدل والمساواة الجديدة برئاسة منصور أرباب، بدت غير متحمسة لذهاب منصب رئيس الجبهة الثورية إلى جبريل إبراهيم. هذه الحركة التي تكونت حديثاً ترى أن منصب الرئاسة يعطي قبلة الحياة لمستقبل جبريل السياسي. فجبريل يواجه أزمة حادة داخل حركته خاصة بعد معركة النخارة التي فقدت فيها حركة العدل والمساواة كل شيء تقريباً، وتسنمه لموقع رئاسة الجبهة الثورية يعني منحه مزيداً من هالة الزعامة التي أخذت في التبدد. العدل والمساواة الجديدة ترى أنه ما دام هناك خلاف حول جبريل فيجب أن تذهب الرئاسة إلى غيره ولكن بشرط أن يكون من حركات دارفور. الفتق الكبير حزب الأمة برئاسة الصادق سيسعى جاهداً لمعالجة هذا الفتق الكبير في التحالف المعارض الفضفاض، وربما نسمع قريباً عن مبادرة من حزب الأمة لاحتواء هذا الخلاف. وإذا لم يفعل الحزب ذلك، فإن عليه أن يختار بين الانحياز إلى حركات دارفور المسلحة التي آل إليها أمر قيادة الجبهة الثورية، وبين الحركة الشعبية التي لها أرشيف لا باس به في العلاقة مع حزب الأمة. الحركة الشعبية نفسها ربما استعانت بجوبا للضغط على جبريل بغرض التنازل عن الرئاسة، خاصة وأن جوبا تمثل مركز الإمداد والتدريب لحركة العدل والمساواة. وتبدو جوبا هي أكثر العواصم التي لها قدرة الضغط على جبريل، وهي في ذات الوقت أكثر العواصم تضرراً من ذهاب الرئاسة عن مالك عقار. ما يهم الحكومة مما حدث في باريس هو أنها يمكن أن تستفيد من هذا الخلاف الكبير بين أهم مكونات الجبهة الثورية. صعود جبريل " يبدو أن حركات دارفور تفطنت إلى أنه من الأفضل لها أن تصعد بالقضية عبر رئاسة الجبهة الثورية بدلاً من أن تكون مجرد كومبارس للحركة الشعبية في معارضة الحكومة " ولكن يجب على الحكومة أن تنتبه إلى أن صعود جبريل إبراهيم إلى قيادة الجبهة الثورية ربما ينطوي على بعض الخطورة بالنسبة للحكومة خاصة على صعيد قضية دارفور. فوجود جبريل على رئاسة الجبهة الثورية يعني أن قضية دارفور التي تمضي نحو الحل السلمي بصورة كبيرة، ربما تعود إلى الواجهة الدولية بصورة أكبر في عهد جبريل كرئيس للجبهة الثورية. ويبدو أن حركات دارفور تفطنت إلى أنه من الأفضل لها أن تصعد بالقضية عبر رئاسة الجبهة الثورية بدلاً من أن تكون مجرد كومبارس للحركة الشعبية في معارضة الحكومة. هذا التحليل يسنده حديث أحمد تقد لسان كبير مفاوضي حركة العدل والمساواة، الذي قال إن الحركة الشعبية ليس لها الحق في الاعتراض على انتقال الرئاسة لجبريل لأن دورتها الرئاسية انتهت والأمر الآن متروك لحركات دارفور الثلاث. والجبهة الثورية ستظل موجودة وجبريل سيمارس مهامه الرئاسية، وإن كان هناك تنظيم يريد الخروج فليخرج.