والي ولاية الخرطوم يقف على إنجاز الطوف المشترك لضبطه متعاونين مع المليشيا ومعتادي إجرام    دخول أول مركز لغسيل الكلي للخدمة بمحلية دلقو    والي ولاية الخرطوم يقف على إنجاز الطوف المشترك لضبطه متعاونين مع المليشيا ومعتادي إجرام    "منطقة حرة ورخصة ذهبية" في رأس الحكمة.. في صالح الإمارات أم مصر؟    بايدن يعين"ليز جراندي" مبعوثة للشؤون الإنسانية في الشرق الأوسط    شركة توزيع الكهرباء في السودان تصدر بيانا    مصادر: البرهان قد يزور مصر قريباً    تصريحات جديدة لمسؤول سوداني بشأن النفط    إقصاء الزعيم!    برشلونة: تشافي سيواصل تدريب الفريق بعد تراجعه عن قرار الرحيل    لطرد التابعة والعين.. جزائريون يُعلقون تمائم التفيفرة والحلتيت    إيفرتون يصعق ليفربول بثنائية    الحلم الذي لم يكتمل مع الزعيم؟!    الجيش يقصف مواقع الدعم في جبرة واللاجئين تدعو إلى وضع حد فوري لأعمال العنف العبثية    أحلام تدعو بالشفاء العاجل لخادم الحرمين الشريفين    السيسي: قصة كفاح المصريين من أجل سيناء ملحمة بطولة وفداء وتضحية    حدثت في فيلم كوميدي عام 2004، بايدن كتبوا له "وقفة" ليصمت فقرأها ضمن خطابه – فيديو    دخول الجنّة: بالعمل أم برحمة الله؟    تشكيل وزاري جديد في السودان ومشاورات لاختيار رئيس وزراء مدني    السودان..رصد 3″ طائرات درون" في مروي    دبابيس ودالشريف    البيت الأبيض: يجب على الصين السماح ببيع تطبيق تيك توك    في أول تقسيمة رئيسية للمريخ..الأصفر يكسب الأحمر برعاية وتألق لافت لنجوم الشباب    كواسي إبياه سيعيد لكرتنا السودانيةهيبتها المفقودة،،    خادم الحرمين الشريفين يدخل المستشفى    فيديو.. مشاهد ملتقطة "بطائرة درون" توضح آثار الدمار والخراب بمنطقة أم درمان القديمة    وزير الخارجية المكلف يتسلم اوراق اعتماد سفير اوكرانيا لدى السودان    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    عملية عسكرية ومقتل 30 عنصرًا من"الشباب" في"غلمدغ"    شاهد بالصورة والفيديو.. شاب سوداني يترك عمله في عمان ويعود للسودان ليقاتل مع الجيش في معركة الكرامة.. وثق رحلته من مسقط حتى عطبرة ليصل أم درمان ويحمل السلاح ويطمئن المواطنين    شاهد بالصورة والفيديو.. إعلامية مصرية حسناء تشارك في حفل سوداني بالقاهرة وتردد مع الفنانة إيلاف عبد العزيز أغنيتها الترند "مقادير" بصوت عذب وجميل    شاهد بالصورة والفيديو.. "دعامي" يظهر في أحضان حسناء عربية ويطالبها بالدعاء بأن ينصر الله "الجاهزية" على "الجيش" وساخرون: (دي بتكمل قروشك يا مسكين)    العين إلى نهائي دوري أبطال آسيا على حساب الهلال السعودي    تطعيم مليون رأس من الماشية بالنيل الأبيض    إثر انقلاب مركب مهاجرين قبالة جيبوتي .. 21 قتيلاً و23 مفقوداً    عن ظاهرة الترامبية    مدير شرطة ولاية نهرالنيل يشيد بمجهودات العاملين بالهيئة السودانية للمواصفات والمقاييس    إيقاف حارس مرمى إيراني بسبب واقعة "الحضن"    سعر الريال السعودي مقابل الجنيه السوداني من بنك الخرطوم ليوم الإثنين    نصيب (البنات).!    صلاح السعدني ابن الريف العفيف    أفراد الدعم السريع يسرقون السيارات في مطار الخرطوم مع بداية الحرب في السودان    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    جبريل إبراهيم: لا توجد مجاعة في السودان    لمستخدمي فأرة الكمبيوتر لساعات طويلة.. انتبهوا لمتلازمة النفق الرسغي    عام الحرب في السودان: تهدمت المباني وتعززت الهوية الوطنية    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    مصدر بالصحة يكشف سبب وفاة شيرين سيف النصر: امتنعت عن الأكل في آخر أيامها    واشنطن: اطلعنا على تقارير دعم إيران للجيش السوداني    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    مفاجآت ترامب لا تنتهي، رحب به نزلاء مطعم فكافأهم بهذه الطريقة – فيديو    راشد عبد الرحيم: دين الأشاوس    مدير شرطة ولاية شمال كردفان يقدم المعايدة لمنسوبي القسم الشمالي بالابيض ويقف علي الانجاز الجنائي الكبير    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الاقتصاد السري في السودان، هل يحتضر؟!
نشر في شبكة الشروق يوم 28 - 08 - 2018

بدءاً فإن لفظة الاقتصاد السري عبارة أطلقتها من (نفسي الأمارة بالسوء)، ولا أدري إن تطابقت مع العبارة التي تطلق على ما أعنيه أم لا.. وما أعنيه بالاقتصاد السري هو الاقتصاد الذي يمارس في الخفاء بسبب تحريمه وتجريمه دولياً أو محلياً، أو في الداخل والخارج معاً.
ويمثل الاقتصاد السري المُحرَّم والمُجرَّم أنشطة مثل الإتجار في المخدرات وتهريب البشر والإتجار فيهم، وتجارة الجنس والسلاح.
كما يتمثل في غسيل الأموال الناتجة عن تجارة الجنس والسلاح والمخدرات والإتجار في البشر والرشاوى الدستورية والتهريب والتهرب الضريبي والجمركي.
كما تمثل أنشطة اقتصاداً سرياً بسبب تحريمها محلياً مثل الإتجار في العملات الأجنبية والمضاربة فيها، وتهريب الذهب والمعادن النفيسة والعملات الأجنبية وسلع الصادر لخارج البلاد.
مثلما تمثلة انشطة كتهريب السلع للداخل، والتهرب من دفع الجمارك والضرائب والرسوم، والمراباة أو الاستدانة بالربا، وما يسمى ب (القَلْ والكَسِرْ).
وغير التحريم القانوني المحلي أو العالمي لكثير من أنشطة الاقتصاد السري، وغير تجاوز غالب أنشطته للخطوط الحمراء في الأخلاق وغيرها.
لكن ما يجمع هذه الأنشطة هو أنها جميعاً تخرب الاقتصاد الوطني وتسرق تريليونات الجنيهات كان يجب أن تذهب للخزينة العامة.
وحتى القليل من الأنشطة الاقتصادية الظاهرة والمشروعة في بلادنا، بعضها تقوم بأعمال سرية تدخلها في خانة الفساد والتخريب الاقتصادي.
مثل: آلاف من العمليات التمويلية في البنوك، وآلاف الأعمال والتصاديق التي تتم من تحت (الترابيز)، وكثير من المزايا التي تُباع وتُشرى.
ومثل: آلاف المصرفيين الذين يأخذون ودائع المودعين نهاراً ويتاجرون بها ليلاً، حتى أصبحت عملاً شبه مسلم به، في ظل غيبوبة البنك المركزي.
ومثل: آلاف الشركات الكبرى ورجال الأعمال العظماء، الذين لا يدفعون الضرائب أو يدفعون ما لا يصل إلى واحد في المائة من القيمة الحقيقية للضريبة المفروضة، مستغلين أنظمة بائدة وذمماً فاسدة.
طريقك إلى نهب البنوك
في العام 2003م وأنا أبحث بعد سنوات طويلة من التيه عن مربطٍ لفرسي، حاصرني أستاذي عادل الباز لأعمل رئيساً لقسم التحقيقات بصحيفة الصحافة وهي ترتب للخروج في شراكتها الذكية."
مصرفيون حدثوا عن تريليونات الجنيهات السودانية قد خرجت من المصارف تحت مسميات تمويل داخلي لكنها تذهب وصاحبها إلى خارج الحدود حيث يستثمر ناهبها هناك، تاركاً البنك لمصيره من التعثر
"
وكنت حين دلفت رفقة رفيق دربي الشهيد علي السنجك إلى صحيفة ألوان في النصف الثاني من ثمانينات القرن الماضي، قد عملت مع الباز في قسم التحقيقات الذي كان يرأسه، وتتلمذت على يديه.
وقبل أن أتعرف على الأجواء داخل صحافة الشراكة الذكية خاصة وأني عائد بعد رحلة انقطاع طويلة عن العمل الصحافي.
عاجلني الباز بأن أشرع فوراً في تحقيق صحافي حول التعثر في البنوك السودانية وعمليات التمويل المصرفي ومشكلاتها.
وأن التحقيق سينشر في العدد الأول من الصحيفة، وقد تحركت عرضاً وطولاً وفق الخارطة وأرقام الهواتف التي سلمني لها الباز، وخرجت من جولتي بما يشيب له الولدان.
وبالفعل أخرجت مما تسمح به أخلاق النشر ومسؤولياته من بين مئات الحقائق والمعلومات تحقيق "طريقك إلى نهب البنوك" وهو العنوان الذي اختاره الأخ عادل نفسه.
ومما قاله المصرفيون على ما أذكر عن أسباب التعثر بالبنوك – الاسم المصرفي لنهب البنوك – أن كثيراً من العمليات التمويلية تتم وفق رهن مضروب أو مزور وما أن يحين الأجل حتى يجد المصرف نفسه أمام وهم كبير.
وقد أشار لنا قيادي بإتحاد المصارف وقتها والذي كان مديراً عاماً لأحد المصارف المتخصصة، بأنه حتى العمليات التمويلية التي تتم بصورة جيدة وتستوفي الشروط.
حيث تكون رهوناتها حقيقة وتكون لتمويل مشروع حقيقي موجود داخل البلاد، يحدث فيها تعثر ويعجز البنك عن استردادها.
وعزا ذلك إلى الطبيعة الأسرية لكثير من شركاتنا الكبرى والعريقة، وقص قصة عن شركة كبرى ذات منبع أسري وتعثرها.
وقال إن إحدى العمليات الكبرى التي تم تمويل مشروع صناعي عبرها من قبل البنك، تم التعثر فيها وعجزت الشركة عن رد أموال المصرف.
وحين راجعنا الأمر، وجدنا أن الأسرة قد سدت منها مراسم زواج أقيم في بريطانيا لإحدى كريماتهم، و اشتروا لآخرين عقارات في القاهرة.
وقال إن ما تبقى من أموال لم يكن كافياً لتوفير المطلوبات الأساسية للمشروع حتى ينجح، فتعثر المشروع وتعثرت الشركة عن السداد.
وحدّث مصرفيون عن أن تريليونات الجنيهات السودانية قد خرجت من المصارف تحت مسميات تمويل داخلي لكنها تذهب وصاحبها إلى خارج الحدود حيث يستثمر ناهبها هناك، تاركاً البنك لمصيره من التعثر.
وأشاروا لعشرات الوجوه المعروفة ممن أخذوا أموال المودعين بالبنوك وذهبوا بها إلى الخارج، وليتهم من هناك التزموا بالسداد، بل تركوا البنوك لرهوناتها المزورة وغير المزورة.
وقد حكى أيضاً أحد قادة المصارف شبه الحكومية، عن ملايين الدولارات التي مول بها البنك شركة تجارية تتبع لقطاع فئوي حيوي وكيف أن رياح خلافات سياسية جعلت إدارة الشركة تدعي أن كل أموال التمويل قد تبخرت بفعل نيران التنازعات.
وقال إن البنك وجد نفسه مجبراً بعد التدخل السياسي أن يصدق عمليات تمويلية أخرى لتعين الشركة على تسديد القديم والحديث، وذهب التمويل الأول مع الريح.
كما حكى أحدهم عن رجال الأعمال الذين يملكون اسماً تاريخياً لكنهم كانوا في أسوأ أوضاعهم الاقتصادية حين قادهم اتفاق ليتم تمويلهم عبر بنك شهير على أن يسهموا بجهدهم ومالهم الممنوح في تنمية قطاع حيوي.
لكن غالب أموال التمويل الذي تلته تمويلات أخرى ذهبت إلى مشاريع عقارية وغيرها ذات عائد سريع ولم تكن ضمن الاتفاق الذي دفعت لهم على أساسه الأموال الضخمة.
المرابون وجهاء المجتمع
ومن الأنشطة التي شاعت في بلادنا لفترة طويلة التمويل الربوي، الذي امتهنه الآلاف ممن يجلسون تحت لافتات (رجال أعمال) ونعدهم نحن من وجهاء المجتمع."
الآلاف من وجهاء المجتمع و(فاعلي خيره) أثروا من هذه العمليات الربوية وأفلس آخرون ممن وقعوا ضحايا لها، ففقدوا أموالهم وشركاتهم وعقاراتهم وممتلكاتهم
"
حيث يقرضك بعضهم بالجنيه السوداني والبعض بالدولار الأميركي، مقابل رهونات وشروط مشددة، وبأسعار فائدة عالية جداً وقاسية.
وقد أثرى الآلاف من وجهاء المجتمع و(فاعلي خيره) من هذه العمليات الربوية وأفلس آخرون ممن وقعوا ضحايا لها، ففقدوا أموالهم وشركاتهم وعقاراتهم وممتلكاتهم.
وأذكر ذات يوم قبل عقدين من الزمان وكنت عندها أعمل مصرفياً، أن تحدث أحد قادة السياسة المالية والنقدية بالبلاد غاضباً – على جنب - مع مدير مؤسسة معنية بالتحقيقات الاقتصادية.
وسأله حول لماذا قامت السلطات المختصة بالقبض على رجل الأعمال (فلان الفلاني) الذي ينتمي لمجموعة مشاركة بالحكومة ثم أطلقت سراحه، وأن (جماعتو زعلانين جداً من دة).
وكم كانت الدهشة أن الرجل لم يكن معتقلاً، وسرد الخبير الحكاية للقيادي بأن الرجل (المتدين) لديه (كم مليون دولار) أخذها من (فلان الفلاني) وهو مرابي معروف ورجل أعمال، وأن أجلها قد حان.
لهذا اختفى (مولانا) فترة عند حدودنا مع جارة شرقية، ثم إدعى أنه مقبوض عليه من قبل السلطات الأمنية، حتى يجد مبرراً لاختفائه ويرتب أوراقه، لأن المرابي الذي أقرضه بأسه شديد.
الآلاف من الأثرياء والتريليونات التي تزحم أنوف العابرين، وتجعل كثير من الناس يحك شعوره ومشاعره: بين حاسد نعمة ومتمنى مثلها، وبين مستغيث بدواخله (إنت الناس دي بتجيب القروش الكتيرة دي من وين)، وبين معارض دوغمائي يشير بها للعبث بالمال العام.
لكن لا أحد يمكن أن يصدق أن آلاف العمائم والوجوه الناعمة وآلاف الأسماء المرموقة يعملون من تحت لافتاتهم كمرابين، وأنهم اقتلعوا جهاراً نهاراً أموال وثروات الآلاف من الناس.
ولأن غالب السيولة النقدية الوطنية هي خارج الجهاز المصرفي تحوم بين الناس داخل الحقائب والحاويات والغرف والحفر العميقة تحت باطن الأرض.
فقد تحول غالب العمل التجاري في الأسواق الكبري بالعاصمة والمدن الولائية إلى الاشتغال بتسليف الأموال عبر الفوائد الربوية التي تتضاعف كلما زادت مهلة السداد.
أو أن تستلف ديناً جديداً لتسدد دينك القديم، وتدخل في متاهة طويلة، ومتواليات هندسية، تكون نهايتها الإفلاس ثم السجن.
بسهولة شديدة الآن يمكنك أن تستلف المبلغ الذي تريد بالعملة التي تريد (جنيه أو دولار) لكن بآجال قصيرة وفوائد قاسية جداً، ويمكنك أن تضع الرهن الكافي وتستلم أموالك وتمضي لقضاء حاجتك الملحة.
ثم يحين الأجل بسرعة وأنت لا تستطيع الإيفاء بها، ومن ثم تتضاعف الفوائد لو أعطاك المرابي آجالاً جديدة، حتى يصل دينك بفوائده قيمة رهوناتك، فتتحول أملاكك إلى ملكية المرابي، وتتحول أنت إلى النسيان.
وبعيداً عن أعين السلطات تحولت أملاك وأراضي وبساتين وثروات الآلاف من السودانيين إلى مصلحة هؤلاء المرابين.
الذين يدخلونك عبر سماسرة ووسطاء متخصصين، خاصة إن كنت من أصحاب العقارات والأراضي الزراعية والأملاك، في متوالية هندسية حيث تستدين بفائدة قاسية ثم يحين الأجل، فتستدين أيضاً لتسدده، ثم تستدين حتى تبتلع الفوائد كل أملاكك، وتذهب بأصل الدين للسجن.
(الهمبول) صناعة سودانية
وعلى أيّام جريدة الصحافية في أيّامها الزاهية، ذهبت برفقة الصديق الشقيق عبد المنعم أبو إدريس إلى السوق العربي، في تحقيق حول عمليتي (القَلْ والكَسِرْ)."
(الهمبول) عملية ذكية جداً يرمي خلالها المرابون ديونهم المتعثرة بفوائدها على عاتق المصارف السودانية الغافلة والمستغفلة
"
وهي طريقة اغتيال مالي أخرى تقوم على أساس أن تأتي للتاجر المرابي وتشتري منه بضاعة بأجل وبأسعار عالية جداُ وهو ما يسمى ب (القَلْ) وتكتب شيكاً بالمبلغ.
ثم تبيعها ب (الكاش) بأسعار منخفضة جداً لنفس التاجر غالباً أو لغيره إن شئت، وهو ما يسمى ب (الكَسِرْ).
وسرعان ما تجد في يدك مبلغاً زهيداً مقابل الذي كتبته في الشيك، بعد أن تبيع بأبخس الأثمان وتمنح منها الوسطاء مبالغ مقدرة.
وسرعان ما تنتهي المدة وتجد نفسك بين أن تمضي إلى السجن أو أن تدخل عملية جديدة تسدد بها القديمة وتمنحك فرصة أخرى.
وكثير من الضحايا رفعوا الراية البيضاء وذهبوا إلى السجن وبيع الممتلكات بعد أن وصلت مديونياتهم إلى مليارات وكان أصلها ملايين قليلة.
وفي أزقة السوق العربي و(خراباته) وبيوته المتصدعة التي تتداول في تريليونات الجنيهات وتعمل في شتى أنواع البيع والشراء، والتي صحبت (منعم) إليها لسابق معرفتي بها – أيّام عملي بالصرافات.
التقينا هناك بخبراء في السوق السوداني وفنونه وجنونه، وكانوا أصدقاء من الذين يثقون فيك ويمكن أن يعطونك خرائط تصل بها إلى حقائق (القَلْ والكَسِرْ) من جذورها، وبالفعل لم يضنوا علينا بمعلومة.
ونحن ننطلق من حكاية ذاك البنك الذي أبدع وأنتج عملية (القَلْ والكَسِرْ) والذي لا يزال يجلس على عرش الفوضى، ونقص أثرها حتى أصبحت ظاهرة تأكل أخضر ويابس السودانيين.
كانت المفاجأة التي أخرست لسانينا أنا وأبو إدريس، أن أحد هؤلاء العارفين كشف لنا عن شكل جديد أنتجته عبقرية السوق السوداني، وقال إنها جديرة بأن يسلط الضوء عليها حتى لا تحترق أموال مصارفنا بأكملها.
وقال إن العملية تُسمى (الهَمْبولْ) وحتى يشرح لنا طريقتها ضرب لنا مثلاً حيّاً برجل أعمال ملء السمع والبصر.
وقال إن الرجل استدان ملايين الدولارات من (فلان) ولم يستطع تسديدها بفوائدها فاستدان ملايين أخرى من (فلان) وعجز كذلك.
ولأن عقاراته وشاحناته وشركاته – التي تحولت باطنياً لملكية أولئك - جميعها لن تسدد دينه لو تقاسمها المرابون، فقد فرضوا عليه أن يصبح (همبولاً).
وباسمه الذي يعلمه الناس وموقعه التجاري العالي في السوق وسمعته وأملاكه – والتي فقدها جميعاً – قام (الهمبول) بعد تجديد عربته الخاصة وشكل مكتبه.
قام بإجراء عدد من اللقاءات مع رجال الأعمال وبعض اللقاءات الصحفية، وطرح عدداً من المشروعات الجديدة.
وبعد حملة تلميعية كبيرة، تقدم إلى خمسة من مصارفنا المعروفة وتحصل من كل منها على عملية تمويل كبيرة جداً.
ويقول الخبير إن رجل الأعمال (الهمبول) يعمل الآن إسمياً فقط حتى يتم تسديد ديون المرابين بفوائدها، والذين أخذوا أموال البنوك فور إنزالها.
ومن ثم بعد ذلك سيواجه مصائره مع البنوك التي ستواجه تعثر ديونه بقوانين تنتهي باللجوء للرهن الذي ستكتشف أنه مباع لشخص آخر - كما حدث كثيراً خلال السنوات الماضية - ومن ثم يصبح ديناً متعثراً.
وهي ضربة ذكية جداً يرمي خلالها المرابون ديونهم بفوائدها على عاتق المصارف السودانية الغافلة والمستغفلة.
السماء التي تمطر ذهباً وفضة
وإن كانت الربا والمراباة والقل والكسر، لا تنتطح عنزتان في أنها من أسباب حالة المحق التي نعيشها الآن."
العام 1978 شهد ثاني أقوى ضربات يتلقاها اقتصادنا وهي عملية تعويم الجنيه السوداني، وبروز العملات الأجنبية لأول مرّة كسعلة تباع وتشترى في قارعة الأسواق
"
فإن الاتجار في العملات الأجنبية الذي لا ينظر إليه الناس من زاوية التجاوز إلا من باب مخالفته للقوانين المحلية وتخريبه للاقتصاد الوطني.
أو من زاوية نمو وتزايد آلاف التريليونات من الجنيهات دون أن تدفع منها ضريبة أو رسم كحق مستحق للبلاد.
لكنه منشط اقتصادي تخريبي مدمر اتخذ في السودان أشكالاً تدميرية تجاوز بها حتى الأعمال العسكرية التي تستهدف أمن البلاد.
وبمثلما كان قرار الرئيس الراحل نميري بتأميم المؤسسات والشركات أكبر وأقوى ضربة يتلقاها الاقتصاد السوداني.
فإن العام 1978 شهد ثاني أقوى ضربات يتلقاها اقتصادنا وهي عملية تعويم الجنيه السوداني، وبروز العملات الأجنبية لأول مرّة كسعلة تباع وتشترى في قارعة الأسواق.
الأمر الذي دفع نحوها آلاف من الطامعين في الثراء السريع، والذين بالفعل أصبحوا أثرياء من مضارباتهم في العملات وتهريبهم لها، ولم تجد الحكومات غير مطاردتهم بلا جدوى.
وسرعان أيضاً ما تحول الدولار والعملات الخليجية إلى سلعة إستراتيجية في بلادنا مثل السكر والدقيق، لا تقوم التجارة فيها على توفير (البضاعة) لمحتاجها وأخذ هامش ربح على ذلك.
لكن دخلت إليها فنون جديدة مثل الاحتكار والتخزين والمضاربة، حيث تبيع المبلغ المالي وتربح فيه ثم يأتيك مرة أخرى لتشتريه وتربح فيه، وهو ما يخلق حالات طلب وهمية للعملات الأجنبية ويزيد أسعارها.
كما تحول الدولار الموجود في السوق المحلي إلى سلعة مرغوبة خارج السودان، حيث يعمل تجار كبار في تجميع ملايين الدولارات والريالات السعودية والدراهم الإماراتية من خلال تجار متوسطين يجمعونها أيضاً من تجار صغار.
ليتم عقد بيع هذه المبالغ بالخارج في دول الخليج وغيرها، ثم تأخذ طريقها للخارج تهريباً، وهو ما بذلت فيه الحكومة مجهودات جبارة لتمنعه، لكن دون أثر يذكر.
ثم تطور الأمر بعد أن أصبح السودانيون من المغتربين والمصدرين الذين لا يعيدون حصائل الصادر للبنك يبيعون أموالهم في الخارج لتجار يتجولون هناك، ومن ثم يبيعها هؤلاء في تلك الأسواق دون أن تستفيد منها البلاد.
ليطبق هؤلاء الخناق تماماً على أنفاس بلادنا حيث يقومون بتهريب ما يعرض من عملات في السوق الداخلية للخارج لتلحق بأموال المصدرين والمغتربين التي حبست هناك.
ظلمات بعضها فوق بعض
وتختلط مواعين الاقتصاد السري مع بعضها البعض حيث تقودك كل واحدة إلى الأخرى، فتجار العملات الأجنبية يمتهنون كذلك تهريبها إلى الخارج وشراء الذهب وتهريبه أيضاً إلى الخارج إلى جانب إقراضها داخلياً بفوائد ربوية عالية."
أنشطة الاقتصاد السري في مجملها تدعم بعضها البعض وتمول بعضها البعض وتدر تريليونات الجنيهات، التي مع حرمتها قانوناً، فإنها لا تصب في شرايين الاقتصاد الوطني
"
مثلما تقود تجارة العملة أيضاً إلى الدخول في غسل الأموال الطائلة عبر البنوك والشركات وعبر أشكال كثيرة باتت معروفة للسودانيين وحتى ل (راعي الضأن في الخلاء).
وتختلط كذلك أنشطة تهريب السلع السودانية المهمة مثل الذهب والوقود والصمغ العربي والسمسم وغيرها: مع تهريب سلع إلى داخل البلاد، مع تهريب السلاح وتهريب المخدرات للداخل والخارج.
وتهريب الخمور: مع تجارة السلاح، مع إدارة شبكات الدعارة محلياً وبين الدول القريبة والبعيدة، مع تهريب البشر من وإلى السودان وبين الحدود.
وهي أنشطة في مجملها تدعم بعضها البعض وتمول بعضها البعض وتدر تريليونات الجنيهات، التي مع حرمتها قانوناً، فإنها لا تصب في شرايين الاقتصاد الوطني.
وإضافة إلى أن كل هذه الأموال التي تتحرك نقدياً وفي قليل منها داخل المصارف، لا تدفع للدولة ضرائب ولا رسوم، ولا يستفيد منها المجتمع في تنميته ونهضته.
فإن هذه الأموال تدخل أيضاً إلى أعمال ظاهرية مشروعة قانوناً حيث تتحرَّك في شراء الأراضي والمخططات السكنية، وفي عمل الشركات التجارية والصادر والوارد.
لكن حتى عند دخولها للأعمال التجارية الظاهرة هذه، فإنها تتهرب حتى من دفع الضرائب والرسوم.
ولا يستفيد المواطن العادي ولا حكومته من هذه الأنشطة أي فائدة اقتصادية، بينما تكاد أعين الناس تقفز من محاجرها في الطريق العام وهم يرون الثروات التي تهبط من السماء على هذا وذاك.
ويرون المظاهر المبالغ فيها بالطريق العام وفي الأحياء السكنية حيث المناسبات الاجتماعية المجنونة والبنايات الفارهة التي تقام في أيَّام قليلة، مما جعل شباب البلاد وشيبها يبحثون عن مداخل لتلك العوالم.
بينما يتفرغ آخرون من فاقدي البصر والبصيرة، يدعمهم أناطين الاقتصاد السري أنفسهم، ليرمون بها جميعاً على ظهر الفساد الحكومي، وأنها أموال حكومية تم اختلاسها وسرقتها، بينما هي ليست كذلك.
ضرورة هيكلة الاقتصاد
وأكاد أجزم هكذا خبط عشواء - دون إحصاءات دقيقة - أن الاقتصاد السري يكاد يمثل تسعين في المائة من تركيبة الاقتصاد السوداني."
السياسة النقدية الحاذقة وهيكلة الاقتصاد طريقنا الوحيد إلى تجفيف كل أنواع الاقتصاد السري دون أن نطلق خلفها رصاصة واحدة وننهك أنفسنا وجهودنا في ملاحقتها
"
وأنه حتى الآلاف من المسميات واللافتات التي تمارس نشاطاً تجارياً أو خدمياً عادياَ ظاهراً، في حقيقتها تعتمد في جني الأموال وبشكل كبير على نوع من أنواع الاقتصاد السري الذي تخفيه خلف لافتتها الخادعة البرَّاقة.
ثم تكمل هذه وتلك اللافتة البراقة كل هذا الهرج والمرج، بتهربها الممنهج من دفع الضرائب للدولة وتكتفي برسوم قليلة للمحليات والنفايات.
وقد تزايد الاقتصاد السري في السودان، المصحوب بحالات الثراء غير المبررة، حتى أصبح هو الأصل، بل واستوعب حتى الأموال العادية المتدفقة.
مثل أموال العملاء في المصارف، التي كان يتم استلافها عبر مشروعات براقة لكنها تجد طريقها نحو تمويل الأنشطة السرية ذات العوائد السريعة.
مما دفع بملايين المنتجين إلى ترك طريق إنتاجهم والالتحاق بركب الاقتصاد السري والثراء السهل السريع، ودونكم كبار رأسماليي الولايات الإنتاجية الذين أرسوا سفنهم بالعاصمة القومية.
وما فاقم من النشاط الاقتصادي السري وتسبب في ازدهاره، وجود غالب الكتلة النقدية في البلاد خارج النظام المصرفي.
وفشل الحكومات المتعاقبة في وضع سياسات نقدية حاذقة تجذب هذه الكتل النقدية إلى داخل الجهاز المصرفي، وفشلها كذلك في هيكلة الاقتصاد وإزالة تشوهاته.
وهو الطريق الوحيد الذي يقود إلى تجفيف كل أنواع هذا الاقتصاد دون أن نطلق خلفها رصاصة واحدة وننهك أنفسنا وجهودنا في ملاحقتها.
لكن الملاحظ أخيراً أن أحداثاً متلاحقة بعضها دامي وبعضها درامي داخل دهاليز هذا الاقتصاد السري قد طفحت على السطح خلال الفترات الماضية.
ولا نرى نحن على ظاهر الأرض منها غير الدماء والأشلاء والجرائم الغامضة، لكن مع ذلك يمكن بمتابعة دقيقة أن نستخلص منها إشارات.
وأن ما نراه من عك ودماء يعني أن التضييق الداخلي والخارجي جعل هذا القطاع يصل إلى حالة ارتباك واحتضار سيعقبها حتماً انحسار؟
والثابت أن الحكومة وأجهزتها الأمنية قد بدأت التحرك الجاد للتضييق على هذه الأنشطة الهدامة التي جعلتنا على حافة الهاوية.
وبخطوتين بسيطتين مثل محاولة السيطرة على الكتلة النقدية وتأمين المطارات والموانئ، أحدثت اضطراباً في صفوفهم.
وتوجته بوحدة تحقيقات الفساد التي جمعت وجوهاً خبيرة ودبيرة برعاية من الرئيس البشير، ومتابعة ميدانية من الفريق أول صلاح قوش.
وحتى تؤتي مجهودات ملاحقة الفساد وكل أنشطة الاقتصاد السري أُكلها، يمكن أن يصحب ذلك استجلاب خبرات لهيكلة الاقتصاد - وطنية أو أجنبية - ووضع خطط محكمة للسياستين المالية والنقدية.
حتى يتم قطع الأكسجين عن هذه الأنشطة التي عادة ما تزدهر في أزمنة الفوضى واقتصاد (شختك بختك)، وحتى تتوزع الثروة الوطنية بصورة منطقية تتوافق مع الجهود والإمكانات.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.