مجاهد بشري في هذه الصورة التي التُقطت نهاراً في سهول دارفور المتعبة من حروب دولة 89، يقف رجل من القبائل العربية على ظهر حصانه، أمام حطام "أكنجي" المسيرة الاستراتيجية الأشد فتكاً، التي أسقطتها قوات تحالف تأسيس – في مدينة الفاشر. يبدو الرجل كأنه لم يأتِ للقتال، بل للشهادة على لحظة نادرة "لحظة سقوط آلة قُدِّمت طويلاً كرمز لا يُقهر". هذه ليست مجرد طائرة، بل ذروة التكنولوجيا التركية في مجال القتال الجوي طويلة المدى، شاهقة التحليق، دقيقة التصويب، وتستخدم عادة في حروب الدولة ضد خصوم غير متماثلين، مثل الأكراد أو الليبيين أو المعارضين في سوريا.. إنها آلة قُدّر لها أن تقتل دون أن تُرى، وأن ترعب دون أن تُسقط. لكنها سقطت .. ليس في حرب دولية متكافئة، بل في سماء الفاشر، حيث لا يوجد جيش نظامي بمفهوم الدولة الحديثة، بل مقاتلون قادمون من هامش الدولة الذي طالما اُستخدم كمختبر للسحق، و الظلم والإفلات من العقاب. يقف الرجل البدوي أمام حطام المسيرة، لا ليتأمل التقنية فهو لا يدرك عنهاشيئاً سوى مقدرتها على حصد ارواح المدنيين، بل ليتأمل الرسالة، أن هذه السماء لم تعد ملكًا للعدو وحده، فالمسيرة التي قصفته أمس في السوق والمستشفى، ها هي الآن ترقد محطمة عند قدميه .. لم يعد مضطراً إلى تفسير معقد لفهم توازن القوى، في مجتمعات دارفور، مثل هذا المشهد يعني شيئاً واحداً "أن اليد التي أسقطت هذا الطائر الحديدي، يمكنها أن تسقط من أرسله". الرمزية هنا أقوى من أي بيان، لأن من أسقط "أكنجي" لم يكن جيش دولة، بل تحالف يُنعت في خطاب خصومه بالمليشيا أو الجنجويد. بينما هم – أي الخصوم يحتضنون أكثر من 40 مليشيا – ويستوردون هذه الأسلحة الفتاكة من تركيا، ويُغرقون السودان بطائرات الموت. يخرج هذا التحالف من باطن الهامش، ويمتلك القدرة التقنية والعسكرية على رد الضربات بل وإسقاطها، و استهداف مصدرها. ومع كل مسيرة تسقط، لا يسقط المعدن وحده، بل تسقط الأكاذيب التي كانت تُبنى بها الشرعية الزائفة لدولة 89، تلك الدولة التي لم تكن تسعى للسلام، بل لتأبيد الحرب، ومن ثم استدعاء التدخل التركي والإيراني والروسي لحماية سلطتها وطبقتها الحاكمة. اليوم، لم يعد بالإمكان إقناع الرجل الذي على صهوة الجواد أن العدو هو جاره أو ابن قبيلته أو ساكن النيل الأزرق أو جبال النوبة، و ان الحرب بين "عرب و زرقة" كما ظل أعلام و نظام دولة 89 يطلق عليها. لأنه رأى بأم عينه السلاح الذي استُورد من دولة تؤوي الإسلاميين، يُستخدم ضده وضد مجتمعاته دون فرز، لقد بات يرى الاصطفاف بوضوح .. من جهة؛ أولئك الذين يريدون بقاء هذه الحرب وقودًا لسلطتهم، ومن جهة أخرى، من يريدون كسر سلاح الدولة القديمة، لا من أجل تمجيد العنف، بل من أجل نزع قدرة القتل عن يد من احترف القتل باسم القانون. لكن هذه اللحظة، رغم رمزيتها، لا يجب أن تُقرَأ كتفوق كامل، هي إشارة على التقدم، لا إعلان عن النصر. إسقاط المسيرة لا يجب أن يدفعنا إلى تمجيد السلاح، بل إلى التساؤل: ماذا لو وُضعت هذه القدرة في خدمة السلام؟ ماذا لو تم إسقاط الحرب نفسها؟ لهذا، فإن أبلغ ما يمكن أن يُقال بعد هذا الحدث ليس التفاخر به، بل تحويله إلى حجة لإيقاف الحرب، وللجلوس على طاولة يُحاسب فيها من قتل، ويُعزَل فيها من يخطط لمزيد من الدم. صورة "أكنجي" المحطمة يجب أن تُصبح بداية قصة جديدة، لا حلقة جديدة في مسلسل الحرب. الحرب التي جعلت الشعب بلا مستقبل .. و بلا أمل.