منعم سليمان جريمة أخرى من جرائم سلطة العسكر/الكيزان في بورتسودان تُضاف إلى سجلها الأسود الملطخ بالخزي والعار. جريمة لا ترتكبها إلا سلطة غليظة القلب، تتغذى على القسوة وتستمد شرعيتها من القهر، لا من إرادة الناس ولا من قانون أو عرف إنساني. مشاهد مؤلمة شاهدتها بالأمس، يندى لها جبين الإنسانية: ترحيل قسري وجماعي لمواطني دولة جنوب السودان، المقيمين في الخرطوم منذ أن كانت عاصمة لوطن واحد، قبل أن تفصلها هذه العصابة العنصرية التي أشعلت الحرب ومزقت البلاد. يُقتاد مئات الجنوبيين قسرًا تحت فوهات البنادق، تُحشد أجسادهم المرهقة في الشاحنات والجرارات كما تُساق البهائم، ثم يُرمى بهم في العراء عند حدود جنوب السودان، في مشهد بالغ الإهانة، فاجر في انتهاكه لكل مبدأ من مبادئ الإنسانية والكرامة البشرية. والأكثر مأساوية أن هذه السلطة المتوحشة فصلت بعض الأطفال عن ذويهم كما شهدت الأمهات، لتتركهم في مصير غامض يقطر رعبًا وضياعًا. أين ذهب هؤلاء الأطفال؟ وهل سيلتحقون بأمهاتهم وآبائهم أم تُركوا لمجهول قاتم لا يُعرف منتهاه؟ أي دناءة أبشع من أن يُنتزع طفل من حضن أمه ويُلقى في المجهول؟ وأي قانون عنصري بغيض يبرر مثل هذا الفعل في أي مكان على وجه الأرض؟ والمفارقة الفاجعة أن دولة جنوب السودان، التي أنهكتها الحروب وضيقت عليها الأزمات، تستقبل اليوم عشرات الآلاف من السودانيين الفارين من نار الحرب، ففتحت لهم أرضها وصدورها، يعيشون فيها كمواطنين لا كلاجئين، يتقاسمون الخبز والمأوى ومرارة العيش، رغم ما تعانيه من ضيق وشظف هو الآخر من صنع العسكر الفاسدين الذين لم يتركوا وطنًا إلا أثخنوه بالجراح. إن ما أقدمت عليه سلطة بورتسودان ليس خرقًا فاضحًا للقوانين الدولية فحسب، بل لطمة في وجه الكرامة السودانية ذاتها. فالسودان، الموقع على اتفاقية اللاجئين وبروتوكولها المعدل، والاتفاقية الإفريقية للاجئين، تدوس فيه اليوم سلطة الانقلاب بأقدامها على تلك الالتزامات، باصقة على مبدأ "عدم الإعادة القسرية" الذي يُعد حجر الزاوية في حماية اللاجئين. ألا تخجل هذه السلطة وهي تطرد أشقاءنا الجنوبيين، بينما ملايين السودانيين يجدون المأوى في دول الجوار، وفي مقدمتها جنوب السودان؟ لكنها لن تفعل بالمثل، لأنها ما تزال تحتفظ ببقايا من شرف وإنسانية لا تعرفهما سلطة الذل في بورتسودان، التي ترزح في وحل العار وتفرط في سيادة البلاد، منحنية أمام "قوى خارجية" تنهب الأرض وتغتصب القرار في خضوع يليق بالخونة والعملاء. مواطنو جنوب السودان ليسوا غرباء عنا؛ إنهم أهلنا وإخوتنا، وامتداد الروح التي انشطرت قسرًا، وأبناء الدم الذي فرّقته السياسة لا التاريخ. بيننا وبينهم نهر من القرابة والمصير لا تفصله حدود رسمها الطغاة والعنصريون، ولا تمحوه عقود من الانفصال القسري. فهم جزء منا، كما نحن جزء من ذلك الوجدان الممتد جنوبًا، حيث لا تنكسر الأواصر مهما تكالب حقد الكيزان العنصريين وخيانة العسكر الجبناء وخستهم التي لا حدود لها. وليس غريبًا على سلطة بورتسودان المعزولة دولياً كما إنسانيًا وحضاريًا أن ترتكب كل هذه المخازي؛ فهي تمارس ما هو أبشع ضد مواطنيها أنفسهم، تقسّمهم على أساس اللون والعرق والدين والجهة، وتمنع عنهم أبسط حقوقهم في الهوية والحرية، في أقذر وأفجر إجراء تمارسه سلطة في تاريخ السودان الحديث. أهلنا في جنوبنا الحبيب: دمنا واحد ومأساتنا واحدة. مهما حاولوا تلويث التاريخ بالدم والكراهية سيبقى خيط الأخوة ممتدًا بيننا، أقوى من بنادقهم وأبقى من سلطتهم الزائلة. غدًا نعود، ويعود لنا ولكم سودان المحبة والعدالة، الوطن الذي لا يُختزل في خريطة، بل يسكن القلوب: *من جوبا إلى الخرطوم*.