«بحزن شديد أتوسل إليكم جميعا، دون اتهام أي شخص باللامبالاة، أن تفتحوا أعينكم وقلوبكم وعقولكم للحرب الكارثية التي تدمر السودان، وأن تبحثوا عن استراتيجيات لإنهائها سريعا»...، مناشدة حزينة ونبيلة وصادقة جاءت في مبتدأ رسالة الدبلوماسي والسياسي السوداني، الدكتور فرانسيس دينق، والتي وجهها إلى الشعب السوداني خلال الأيام الماضية عبر الفضاءات الإسفيرية. وفرنسيس دينق يُعتبر أحد أبرز المفكرين الذين حاولوا تقديم حلول سلمية لأزمات السودان، وله باع طويل في مجال الدفاع عن حقوق الإنسان وقضايا القارة الإفريقية وحقوق المجتمعات المهمشة، وخاصةً في دارفور وأبيي وجنوب السودان، وظل على الدوام يدعو إلى التعايش السلمي والإخاء بين دولتي السودان وجنوب السودان. وفي رسالته، عبر الدكتور فرانسيس عن ذهوله من حجم المعاناة والوحشية، وكتب: «لطالما أدهشني التناقض الصارخ بين الصفات السودانية المشهود لها بالكرم وحسن الضيافة والأخلاق الرفيعة من جهة، والقسوة واللاإنسانية التي يمارسونها ضد بعضهم البعض في حروبهم الداخلية من جهة أخرى». ولكن هذا التناقض الصارخ، والمخزي في الوقت نفسه، لا يدهش ويؤلم الدكتور فرانسيس دينق وحده، بل أصاب وتملك مزيج الدهشة والحزن والغضب من كل أصحاب الضمائر الحية والنفوس السوية، وخاصة بسطاء الشعب السوداني وهم ينشدون تفسيرا، ولم يتوقف سؤالهم عن ما الذي أصابنا؟ وما هذا الذي كشفته الحرب فينا؟ ومن أين أتى هولاء؟! وللدكتور فرانسيس دينق تفسيره الخاص لهذا التناقض، فكتب في مناشدته: «وبينما كنت أتأمل التناقض بين الفضائل الإنسانية التي عرف بها السودانيون عالميا، والفظائع اللاإنسانية التي يرتكبونها بحق إخوانهم السودانيين في حروبهم الداخلية، كان التفسير الوحيد الذي توصلت إليه هو أن هذه الحروب هي تجليات لأزمات حادة في الهوية الوطنية، تقوم على أساس الاختلافات في العرق، والدين، والثقافة. في هذه الحروب، يُعاد تصنيف الآخر على أنه «أقل من البشر» ويمكن قتله بأكثر الطرق وحشية دون ندم. وفي الحرب الحالية، أصبحت عوامل الهوية المسببة للانقسام واضحة المعالم ومبهمة في آن واحد بشكل متناقض، حيث يميز العرب والمسلمون أنفسهم بلا رحمة بناءً على عوامل مغلوطة تتعلق بالإثنية والدين. لقد أصبح الصراع على السلطة والموارد بين الجنرالات ومؤيديهم، والمواجهة المدنية مع المؤسسة العسكرية للمطالبة بالديمقراطية تحت حكم مدني، عوامل محورية في النزاع. ومع ذلك، تظل الهوية أساسا للوصول إلى السلطة والموارد. كما تواجه المطالبة بالحكم المدني قضية شديدة الانقسام وهي العلاقة بين الدين والدولة. وهكذا، تتشابك الهوية بشكل معقد مع هذه العوامل الأخرى في الصراع. ولطالما ارتبطت الجماعات العربية الإسلامية المهيمنة في البلاد بمصالح خارجية. أما الآن، فقد أصبحت القوى الأجنبية، الإقليمية والعالمية، مدفوعة بالطلب على الموارد الطبيعية للسودان. إن التحدي المتمثل في إنهاء الحرب، وإعادة بناء البلاد من الدمار، وبناء أمة تعيش في سلام مع نفسها ومتحدة في تنوعها الثري، يقع أولا وقبل كل شيء على عاتق السودانيين أنفسهم، وإن كان ذلك بدعم من شركاء خارجيين ذوي نوايا حسنة». ولعل هذا التفسير يتماهى مع ما ذهب إليه صاحب المناشدة في مؤلفه القيّم «صراع الرؤى: نزاع الهويات في السودان» عندما كتب «إن المشاكل الإثنية والدينية التي ظلت مكبوتة لفترة طويلة، تبرز لتعبر عن نفسها بالعنف الذي يهدد هذه الدولة بالتجزئة والتفتت، وربما بالانهيار التام. هذا هو الخطر الماثل في صراع الرؤى، الذي ظل مستعراً لعشرات السنين في السودان. ومن سخرية القدر أن يكون جل هذا الشقاء المرتبط بالحرب الأهلية في السودان، نتاجاً للحلم العظيم في أن يصبح السودان نموذجا مصغرا للقارة الافريقية وجسرا يربط بين القارة والشرق الأوسط». من جانبي أقول، صحيح أن وجود الانتماءات والرؤى المتعددة والمتنوعة في السودان، يوفر أجواءً ملائمة لتفجر الصراعات والنزاعات بين هذه الانتماءات، إثنية كانت أم دينية أو أي انتماء آخر. وإن الفشل في إدارة التنوع، ونواتجه من صراعات إثنية وتمترس خلف الهويات وإنهاك وإضعاف لمؤسسات الدولة وللأحزاب والمكونات السياسية ومؤسسات المجتمع المدني وتهميشها، تدفع بالمواطن ليتراجع إلى رحاب القبيلة والعشيرة للتعبير عن مطالبه السياسية، وبحثاً عن الأمن والأمان، ولكن لا بد من الحذر الشديد حتى لا ننزلق إلى فخ اختزال جوهر مسببات الأزمة السودانية فقط في النزاع بين هذه الهويات والرؤى المختلفة. فهذه الهويات ليست عوامل مفسرة وإنما تحتاج للتفسير، كما أشار أستاذ الفلسفة والكاتب السوداني، الدكتور هشام عمر النور، في مقال له بعنوان «التفكير نقديا في نزاع الهويات، فرانسيس دينق نموذجا» نُشر في الحوار المتمدن بتاريخ 21 أبريل 2003. يقول الدكتور هشام «إن النزاع الراهن فى السودان لا يفسره النزاع بين الهويات، بل إن تبدّي الصراع كنزاع بين هويات هو الذي يحتاج الى تفسير ولايصلح مطلقاً أن يكون عاملاً مفسراً، ومجرد وجود هويات متنوعة لايصلح مطلقاً أن يكون أساساً للنزاع بينها. وهذا يعنى أن نفهم الظروف التى تدفع جماعة من الناس إلى إدراك الهوية كنواة مغلقة وصلدة ومن ثم تدفعهم للانسياق وراء الذين يستغلون هذا الوهم لصالحهم.... إن صراع الهويات ليس صراعاً ميتافيزيقياً بين هويات مغلقة خارج التاريخ، ذات طبائع وخصائص جوهرية، وإنما هو صراع تاريخي، بمعنى أنه صراع اجتماعي وسياسي، أي صراع حول السلطة والثروة، ولظروف بعينها أصبح هذا الصراع يدار على أسس من استراتيجيات الهوية». وفي ختام رسالته، نصرخ مع الدكتور فرانسيس دينق بأن الحل يقع في المقام الأول على عاتق السودانيين أنفسهم. ويجب على الأطراف المتحاربة في النزاع وحلفائهم الخارجيين كشركاء في الجريمة إنهاء هذه المذبحة بسرعة. ويجب على جميع الأطراف السودانية الجلوس معا للتفاوض على إطار عمل للإدارة البناءة للتنوع لضمان الشمول والمساواة والكرامة لجميع المواطنين، دون تمييز على أي أساس.