حتى قبيل الإعلان عن اتفاق "شرم الشيخ"، بوساطة مصرية، قطرية، تركية، كانت إسرائيل تراهن على أن العالم سيسامح وينسى. بيد أن التقارير الغربية تواترت على أن عزلة إسرائيل لم تعد نظرية على حد تعبير politico. في الآونة الأخيرة، وجد نتنياهو نفسه وحيدا، في مواجهة العالم، كان المشهد في الأممالمتحدة، هو محصلة كل التفاصيل، التي جمعت أجزاء الصورة المبعثرة: العالم في جهة، ونتنياهو، منبوذا ووحيدا، في الجهة المضادة. وذلك ابتداء من تجنب طائرته، المرور بالمجال الجوي الأوروبي، في طريقه إلى الأممالمتحدة منذ عدة أيام، وذلك خوفا من أن تقرر تلك البلدان تنفيذ مذكرة اعتقال صادرة عن المحكمة الجنائية الدولية، نهاية بهيئته التي بدت باهتة أثناء إلقاء كلمته أمام قاعة خالية وباردة بعد أن غادرها المندوبون. في غضون ذلك، اتهمت شخصيات أوروبية رفيعة المستوى، إسرائيل صراحة وبلغة غير تحايلية بارتكاب جرائم إبادة جماعية، بالتزامن مع تزايد الدعوات لفرض حظر على الأسلحة بالولاياتالمتحدة الأميركية، حتى بين الديمقراطيين الداعمين، بمن فيهم مستشار الأمن القومي السابق جيك سوليفان. وفي أغسطس/آب، حثت 28 دولة غربية إسرائيل على إنهاء بربريتها ووحشيتها في غزة، ناهيك عن التهديدات بالمقاطعة الثقافية والأكاديمية والرياضية، والتي وصفها الأكاديمي الإسرائيلي نمرود غورين "بأنها حاضرة بقوة في المجال العام"، و"أن معظم الإسرائيليين يشعرون بأن العالم ضدهم، وألا أحد يفهمهم"، ما حمَل رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق إيهود أولمرت على أن يعترف مؤخرا: "لقد أصبحنا دولة منبوذة". كان الإسرائيليون العاديون، كما يقول شتراوكلر، "يراهنون على ترامب، وعلى واشنطن، يقولون: إذا كانت الولاياتالمتحدة في صفنا، فلا بأس، فالأمور ليست بهذا السوء. ويرى نتنياهو أن ترامب منحاز إليه، ولن يُجبره على فعل أي شيء، وسيدعمه. وأنه يشعر بالثقة في انحياز ترامب إليه". بيد أن المفاجأة التي لم يتوقعها نتنياهو أنه لم يسبق أن مارس رئيس أميركي ضغوطا قاسية على إسرائيل تشبه ضغوط ترامب في الأيام الأخيرة، ربما باستثناء الإنذار الذي وجهه دوايت أيزنهاور لرئيس الوزراء الإسرائيلي ديفيد بن غوريون بفرض عقوبات سياسية واقتصادية عام 1956. وقد طفت على السطح المخاوف بشأن العزلة الدبلوماسية فعليا في منتصف سبتمبر/أيلول، عندما حذّر نتنياهو بأن على إسرائيل أن تستعد لتصبح أكثر اكتفاء ذاتيا اقتصاديا، كما كانت إسبرطة في العصور القديمة. وكشف أحدث استطلاع ل"بيو" أن الإسرائيليين يميلون إلى القول إن بلادهم لا تحظى بالاحترام على المستوى الدولي: حيث يقول 58% إن إسرائيل فقدت احترام العالم في حين يعتقد 39% أنها تحظى بالاحترام. وفي بعض البلدان، يميل الشباب أكثر من كبار السن إلى تبني نظرة سلبية تجاه إسرائيل. وينطبق هذا بشكل خاص على البلدان ذات الدخل المرتفع التي شملها الاستطلاع: أستراليا، وكندا، وفرنسا، وبولندا، وكوريا الجنوبية، والولاياتالمتحدة. أما في إسرائيل، البلد المنهك من الصراع، فقد أشارت استطلاعات الرأي باستمرار إلى أن معظم الناس يرغبون في انتهاء الحرب. ويتزايد وعي الإسرائيليين بالضرر الذي ألحقته الحرب بصورة بلادهم، ومدى عزلتها. ويبدو استئناف الحرب، مع ضغوط داخلية وخارجية، أقل احتمالا. فضلا عن أنه خلال الأشهر التسعة الماضية، رأى نتنياهو أن ترامب يفعل أشياء لم يفعلها أي رئيس أميركي من قبل، فقد فتح حوارا مباشرا مع حماس في مارس/آذار من هذا العام. وأبرم صفقة مع الحوثيين في اليمن، لم يعلم بها الإسرائيليون إلا بعد وقوعها. ورغم اعتراضات إسرائيل، رفعَ العقوبات عن الحكومة الجديدة في سوريا. وأعرب عن رغبته في إجراء مفاوضات مع إيران. لقد اكتسبت المساعي الرامية إلى التوصل إلى اتفاق زخما بعد المحاولة الإسرائيلية الفاشلة لاغتيال مسؤولين كبار في حماس – بمن فيهم المشاركون في مفاوضات الدوحة الشهر الماضي – والتي أثارت غضبا إقليميا، بمن في ذلك بعض حلفاء الولاياتالمتحدة المهمين. ويبدو أن فريق ترامب قد وجدها فرصة سانحة، للضغط على نتنياهو، واتهمه بتوريط واشنطن في مشكلة مع أهم حلفائها خارج الناتو. ويُعتقد بشكل كبير، بين النخب القريبة من البيت الأبيض، أن ترامب قد توصل بالفعل بعد ضربة الطيران الإسرائيلي الغادرة على الدوحة إلى استنتاج مفاده أن الحرب يجب أن تنتهي، لأنه كان محبطا من نتنياهو، ولأنه اعتقد أن الصورة العامة للحرب كانت سيئة للغاية، واعتقد أنه كان عليه أن يغتنم الفرصة، ليس من خلال صفقة جزئية، ولكن من خلال صفقة شاملة. ولقد تنامت مشاعر الكراهية ضد إسرائيل، بشكل ينذر ولأول مرة بتخلي كل حلفائها عنها، وذلك في دول كانت محصنة تماما، من أي شكل من أشكال تلك الكراهية، وقبيل اتفاق شرم الشيخ بأربعة أيام، تظاهر مئات الآلاف في مسيرات عبر أوروبا ضد إسرائيل، في حدث اعتبره الإعلام الصهيوني، أخطر منعطف في العلاقة التاريخية بين أوروبا مع الدولة اليهودية. فضلا عن وجود رؤى استشرافية رصينة، ترى أن إسرائيل، وضعت نفسها في أول طريق إلى الانهيار والاختفاء، وربما العودة الجماعية التدريجية إلى حيث جاؤوا قبل أكثر من سبعين عاما مضت. وإذا كانت غزة بطبيعة الحال بحاجة إلى اتفاق ينهي مأساة ملايين الفلسطينيين، فإن العالم الغربي كله بما فيه الولاياتالمتحدة الأميركية وإسرائيل ذاتها كان بحاجة ملحة لمثل هذا الاتفاق، لإنقاذ سمعته وإعادة تدويرها وغسلها، بعد أن بات الغرب في نظر شعوب العالم المستضعفة، محض مساحة جغرافية حامية للوحشية، وللسياسات الممنهجة للإبادة الجماعية، وكشف بوقاحة عن "داروينيته" التي لا تعترف إلا بتفوق العرق الأبيض والرجل الأميركي السوبر، ورامبو الإسرائيلي، ولا يرى العالم خارج حدوده، أكثر من محض عبء إنساني، يتعين التخلص منه، ولو بتجويعه وتهجيره والاستيلاء على أرضه، ودفنه حيا تحت أنقاض مدنه الفقيرة المدمرة. العالم كله إذن كان متفقا ولأول مرة على ضرورة وقف الحرب، ولم يكن أمام نتنياهو إلا أن ينزل عن صلفه وغروره عند رغبة الرأي العام العالمي، بدون أن يحقق أيا من أهدافه، ولينتظر مصيره ومستقبله السياسي، وربما يخرج من السلطة بعدها ليحل نزيلا داخل زنزانة، بأحد السجون الإسرائيلية.